أ.د.محمد بن حسن الزير
في مطلع منتصف القرن الثاني عشر كان يعيش على ضفاف وادي حنيفة عدة قرى وبلدان؛ مجتمعها عربي ودينها الإسلام؛ ولكنها كانت تمثل قرى وبلداناً متعددة الأمراء والرؤساء، وبينها من التنافر والعداء ما الله به عليم؛ ونذكر على سبيل المثال لا الحصر؛ إمارة الدرعية، وإمارة العيينة، وإمارة حريملاء، وإمارة الرياض، وإمارة مقرن، وإمارة معكال، وإمارة منفوحة... إلخ.. بل كان لبعض الإمارات في بعض الأوقات أكثر من أمير؛ فالدرعية كان فيها أميران، واحد في (سمحان) وآخر في (غصيبة) قبل أن توحد إمارتها في رئاسة واحدة الأمير (محمد بن سعود بن مقرن)؛ مما جعل لها أهمية وشأناً علا بها على بلدان أخرى، وصارت لها شُهرة قبل قدوم الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وقد أطلق عليها العالم التركي (أبوبكر بن بهرام الدمشقي العثماني ت 1102هـ/1691م، في كتابه؛ مختصر الجغرافيا الكبير) اسم» قصبة الدرعية» لشهرتها في القرن الحادي عشر الهجري، انظر: (عبدالله ابن محمد المنيف؛ آل مريدي والرياض في أقدم المصادر العثمانية، الجزيرة، 29-4-2007م، العدد 12631، ومثل ذلك كانت حريملاء وفيها قبيلتان ولكل منهما رئيس؛ يقول ابن بشر في عنوانه 1/9: «وكان رؤساء أهل حريملاء قبيلتين، أصلهما قبيلة واحدة، وهم رؤساؤها، وكل منهم يدعي القول وليس للأخرى على الثانية قول ولا للبلد رئيس يزع الجميع».. وكانت تلك القرى والبلدان، من الناحية السياسية والاجتماعية، كيانات مستقلة، وكانت تشبه ما يُعرف بالدول المستقلة، وكثيراً ما تنشب بينها المناوشات التي ربما وصلت إلى التناحر والحروب، ويكفينا دليلاً على ذلك قول شاعرهم الشعبي:
ياما حلا والشمس بادي شعقها
ضرب الهنادي بين مقرن ومعكال
وأما عن الحال العلمية والدينية؛ فلم تكن بأحسن حال من حالتهم السياسية والاجتماعية؛ فإنه على الرغم من وجود بعض العلماء، وبعض القراء، والوعاظ الذين كان لهم دورهم النسبي في ذلك الوقت في حياة السكان، إلا أن آثار الأمية وشيوع الجهل من الأمور الواضحة في حياة الناس؛ وبخاصة من حيث انتشار بعض البدع والخرافات في المظاهر الدينية، وتأثيرها في عبادات الناس وفي عقائدهم، ومن ذلك التمسح بالقبور وتقديسها والتبرك بالأضرحة، ووجود بعض السلوكيات الغريبة؛ مثل الاعتقاد في بعض الأماكن والأشجار وعمل النذور والتعويذات، وقد وجد في تلك البقاع في تلك الأزمنة بناء القبب على الأضرحة، وغير ذلك من الشركيات.
وقد وجد بعض المتصوفة؛ وربما كان ذلك من بقايا آثار الدولة الأخيضرية التي نشأت في الخضرمة في اليمامة عاد 253هـ، وسقطت بعد منتصف القرن الخامس الهجري تقريباً. وقد أشارت بعض المصادر إلى وجود بؤر للانعزال والتصوف في الدرعية نفسها؛ ومن ذلك ما ذكره (ابن أبي جمهور؛ مجلي مرآة المنجي 3/939، بيروت- جمعية بن أبي جمهور الأحسائي لإحياء التراث) في حديثه عن الدرعية التي مر بها، وأشار إلى أنه مكث بها وسمع (أن رجلاً منقطعاً عن الناس في الجبل في غار في جبل في الدرعية، وأنه مشغول بالذكر، وأنه ورد غريباً من اليمن، والتقى به وناظره.
ويصف ابن بشرفي عنوان المجد (1/6-7) تلك الحالة الدينية بقوله: «.. وكان الشرك إذ ذاك قد فشا في نجد وغيرها، وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور والبناء عليها والتبرك بها والنذرة لها والاستعانة بالجن والذبح لهم، ووضع الطعام لهم وجعله لهم في زوايا البيوت لشفاء مرضاهم ونفعهم وضرهم والحلف بغير الله، وغير ذلك من الشرك الأكبر والأصغر. والسبب الذي أحدث ذلك في نجد، والله أعلم، أن الأعراب إذا نزلوا في البلدان وقت الثمار صار معهم رجال ونساء يتطببون ويداوون؛ فإذا كان في أحد من أهل البلد مرض أو في بعض أعضائه أتى أهله إلى متطببة ذلك القطين من البادية فيسألونهم عن دواء علته، فيقولون لهم: اذبحوا له في الموضع الفلاني كذا وكذا؛ إما خروفاً بهيماً أسود، وإما تيساً أصمع؛ وذلك ليحققوا معرفتهم عند هؤلاء الجهلة، ثم يقولون لهم: لا تُسموا الله على ذبحه، وأعطوا المريض منه كذا وكذا، وكلوا منه كذا وكذا، واتركوا كذا وكذا،؛ فربما يشفي الله مريضهم فتنة لهم واستدراجاً، وربما يوافق وقت الشفاء، حتى كثر ذلك في الناس، وطال عليهم الأمد، فوقعوا بهذا السبب في عظائم. وليس للناس من ينهاهم عن ذلك، فيصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورؤساء البلدان وظلمتهم لا يعرفون إلا ظلم الرعايا والجور والقتال لبعضهم بعضا..».
وفي ظل تلك الأحوال والظروف كان الفتى (محمد بن عبدالوهاب) ينشأ في كنف والده القاضي في العيينة، ويتلقى عنه القرآن وما تيسر من الفقه والعلوم، ومعرفة التوحيد ونواقضه، على حد تعبير ابن بشر، ؛ مما أتاح له أن يدرك خطأ ما يقع فيه الناس حوله من البدع والمنكرات، وأن يبدأ في إنكارها، وتلقى استحسان الناس ما يقول؛ إلا أن ذلك القبول لم يصل إلى حد الفعل الجاد، من قبل الرؤساء، لمناهضة المنكر وإزالة البدع، وهنا رأى أن يتجه إلى مكة لأداء فريضة الحج، ثم اتجه إلى المدينة، وفيها أخذ من العلم ما أخذ من عالمها الشيخ؛ (عبدالله بن إبراهيم بن سيف).
ويقول الشيخ محمد، كما جاء في عنوان المجد (1/7): «كنت عنده يوماً فقال لي: تريد أن أريك سلاحاً أعددته للمجمعة؟.. قلت: نعم! فأدخلني منزلاً عنده فيه كتب كثيرة، وقال هذا الذي أعددنا لها».. وفي المدينة أخذ عن الشيخ العلامة (محمد حياة السندي) وفيها رأى الناس، يدعون ويستغيثون، عند الحجرة النبوية، ثم عاد إلى نجد، ثم اتجه إلى البصرة، قاصداً الشام، وفيها قرأ على العالم (محمد المجموعي) وفيها أنكر ما رآه من منكرات؛ مم جعل الرؤساء وغيرهم ينالونه بالأذى، ويخرجونه من البصرة وقت الهاجرة، ماشياً على قدميه، وقد كاد أن يهلك من العطش، لولا أن ساق الله له رجلاً، من أهل بلد الزبير، فسقاه وحمله على حماره إلى البلد.. وكان الشيخ يريد السفر إلى الشام؛ ولكن ضياع نفقته جعله يعود إلى نجد، وفي طريقه قصد الأحساء، ونزل على الشيخ العالم (عبدالله بن محمد بن عبداللطيف الشافعي الأحسائي، ثم اتجه إلى حريملاء التي كان والده قد انتقل إليها عام 1139هـ، ويقول ابن بشر (1/8-9): «.. جلس عند أبيه يقرأ عليه وينكر ما يفعل الجهال من البدع والشرك في الأقوال والأفعال، وكثر منه الإنكار لذلك ولجميع المحظورات، حتى وقع بينه وبين أبيه كلام، وكذلك وقع بينه وبين الناس في البلد، فأقام على ذلك مدة سنين، حتى توفي أبوه عبدالوهاب، في سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف، ثم أعلن الدعوة والإنكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبعه ناس من أهل البلد، ومالوا معه، واشتهر بذلك.. وكان في البلد عبيد لأحدى القبيلتين.. كثر تعديهم وفسقهم، فأراد الشيخ أن يُمنعوا من الفساد.. فهم العبيد أن يفتكوا بالشيخ.. فانتقل الشيخ بعدها إلى العيينة ورئيسها يومئذ (عثمان بن حمد بن معمر) فتلقاه.. فأعلن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
وللحديث صلة،،،