د.سهام صالح العبودي
تنتج كلُّ مرحلة تاريخيَّة سماتها الثقافيَّة التي ترسم لوحة الوجود القيمي والأخلاقي للمنتمين إليها، لكنَّ الثابت في تتابع هذه المراحل، واختلاف سماتها هو أنه كلمَّا قلَّ المنسوب القيمي المعنوي الأخلاقي فيها استعاضت عنه بتعبئة غير مناسبة؛ فالإنسان لا يمكن إلا أن يكون مستندًا إلى ما يشكِّل أفكاره، ويوجِّه أفعاله، ويصنع صورته فردًا في منظومة اجتماعيَّة متكاملة.
وفي هذا العصر - حيث يبدو وهج الصورة خُلَّبًا مسيطرًا - تبدو التعبئة بالمحتوى المادي المظهري هي الوُضْحى، والأكثر استشراءً على نحوٍ ظاهر، وحين تصبح الصورة - وحدها - هي ما يُرى في الخارج، يغدو التنبُّه إلى جوانب أخرى، وتعليتها أقل أهميَّة، ويبقى الأمر عند حدود ما يُبصرُ فقط، دون أن يأخذه الناظر إليه نحو محطَّة الفحص، والتبصُّر، والرؤية؛ أو بصورة أوضح: سنكون أمام الحالة التي تكون الغلبة فيها للمظهر على حساب معطيات المخبر!
لا أحد يقول إن مسألة المظهر مسألة غير ذات أهميَّة، بل لم تخلُ قواعد التوجيه الدينيَّة، والأخلاقيَّة من دعوات رعاية الهندام، وتأكيد النظافة، وحسن الهيئة، لكن الاعتراض هو أن يكون هذا المظهر صاحبَ الأهمية الأولى، وأحيانًا المطلقة في استقبال صورِ الآخرين، وتقدير ما هم عليه، والحكم عليهم. هذا المطلق سيؤول بنا هذا إلى حالة (قشريَّة) في التعامل مع العالم؛ حيث لا نرى أبعد ممَّا تراه العين الحاسة التي تبصر وهي مقيَّدة بهذا الوعي القاصر المحدِّد.
لا يمكن أن نقلِّل من شأن الأفكار التي تقولب الإنسان المعاصر وتوهمه بأولويات ما يحدِّد قيمته، كما لا يمكن غضُّ النظر عن الضخ المتوالي في وسائل الإعلام من أجل تكريس هذه الأفكار. وفي مرحلة مَّا باتت أمور مثل الاقتناء الفاخر، ثمَّ استعراضه هو ما يمنح أفضلية المكانة، ومسحة الاحترام؛ ومن ثَمَّ الحصول على تقدير صوريٍّ مجلوب بالمال!
بات هذا التكريس يظهر على السطح بصورة مكثـَّفة؛ فهو ينتقل من حالة الفكرة إلى الوجود الملموس الوافر الذي لا يمكن للعين أن تخطئه، فإذا كان الشخص يطمع في حكمٍ فإن عليه أن يُظهر ملامح واضحة لما يريد من الآخرين تقديره، ويظهر الأمر على نحوٍ إعلانيٍّ صارخ ومبهرج ومزعج؛ ليلفت الشخص الآخرين إلى وجوده من خلال أهمية مستعارة - مشتراة.
هاجس الظهور المادي جعل من غير المحرج على الفرد المستقل الوجود أن يظهر مرتديًا هويَّة أشخاص آخرين، ولا يزعجه أن يبدو كائنًا موسومًا، ومبقَّعًا في كلِّ جزء من جسده بالأحرف الأولى (Monograms) للشركات المنتجة، أو المصممين العالميين، حالة من الوهم الزائف الذي يزيِّن التبعيَّة، ويجعلها إحدى مانحات المكانة في تناقض لا يمكن تفسيره!
نحن - إذن - أمام حالة من حالات إشكالات الهويَّة القلقة التي لا تعرف أين تقف كي تظهر نفسها؛ فيسهل - حينئذٍ - تكييفها للمنافع التجاريَّة؛ مثل كلِّ أنماط السيطرة التي تقرأ سلوك الفرد، ويقوم الأمر فيها على مبدأ الإقلاق ثم التثبيت - الإزالة والإحلال، ولا شيء أسهل من الانتفاع المزدوج من الفرد القلق بشأن (من يكون؟): فها هو يغدو (محلوبًا) من جهتين: يَدفع، ويُستخدم؛ يدفع المال ثم يحمل العلامة كما لو كان لوحة إعلانيَّة متنقِّلة في مجتمعات يتعرَّف الناس فيها بعضهم من بعيد عبر الصورة في شكلٍ من أشكال (التشييء) (والتفييء)، في حالة من بؤس عصري لا يمكن إلا يُرى!
كان وسم الدواب شكلاً من أشكال التحييز، وتأكيد الانتماء؛ إِذ توسم الحيوانات برموز معيَّنة، بالطريقة الصعبة أولاً (الكيِّ)، ثم بالطرق الأكثر رأفة كالرقع المعدنيَّة وسواها. تطوَّرت الوسيلة وبقيت الفكرة: قطعان الأبقار يتحدَّد انتماؤها إلى مزارع، وملكيَّات. ولكن: كيف تحوَّل الأمر إلى (استبقار) الإنسان المعاصر ووسمه؛ لإقناعه أن ذلك يجعله حائزًا لا مُتحيَّزًا، ومالكًا لا مملوكًا؟!
لسبب مَّا لا يجد بعض الناس غضاضة في الانتماء الموسوم هذا، يجري التبرُّع بالجسد تحقيقًا لانتماء معلن: جموع من النساء (المطبَّعات) من رؤوسهنَّ حتى أخامِص أقدامهنَّ باختصارات العلامات التجاريَّة، المهووسات بأن يُنظر إليهن من زاوية ما يقتنين لا ما هنَّ عليه، والأسوأ هو تصدير هذا الوهم ليكون معيارًا للمفاضلة، ومنطقًا ثابتًا في تقدير الإنسان بعيدًا عن الفردانيَّة الداخليَّة المتميِّزة والمختلفة.
يجري تكريس ثقافة الجوهريَّة الماديَّة الزائفة هذه لإقناع الفرد أنه غير كافٍ بالنسبة إلى نفسه، وأنَّ عليه أن يحمل بين يديه، أو على جسده هويَّة أخرى كي يستحقَّ الانتماء إلى النسق الاجتماعي المنتظم المتكلَّف!
لكن الحقيقة إلا شيء، ولا أحد يمكنه أن يدفع الفرد إلى حمل اسم شخص آخر على جسده؛ كي يعطيه قيمة باستثناء وحيد، وهو أن يكون هذا الاسم المحمول كتابًا!