د. إبراهيم بن محمد الشتوي
أخذت قضية أصول العلماء القدماء في التاريخ العربي اهتماماً كبيراً من قبل الدارسين، إذ يرى بعض الباحثين أو ربما كثير منهم أن أكثر العلماء العرب القدماء يعودون في أصولهم إلى أمم غير العرب، فهم من الموالي أو أبنائهم أو من أبناء المهاجرين إلى الحاضرة العربية من المناطق التي دخلها الإسلام ولم تكن من أرض العرب.
وإذا كان المستشرقون في العصر الحديث قد أعطوا أهمية كبيرة للدور الذي قام به هؤلاء العلماء - كما يقول هارالدموتسكي - فإنهم قد اعتمدوا على مقولات قديمة جاءت في كتب الأخبار والتاريخ تؤكد هذه الحقيقة.
بل ذهب بعضهم إلى القول إلى أن كل النوابغ القدماء كانوا من غير العرب، ويستدلون بذلك على أن الخليل بن أحمد لم يكن عربياً كما يروي ياقوت، إذ يرون أنه في الأصل من أبناء الفرس الذين جاءوا اليمن أيام الحكم الفارسي، وبقوا بعد زواله ثم هاجر مع من هاجر من الأزد وألحق بهم.
وقد وقف هارالدموتسكي رافضاً هذه الدعوى، وسعى إلى إثبات نقيضها معتمداً على المنهج الكمي، وذلك بتعداد العلماء في كل طبقة من طبقات الفقهاء، وفي كل مصر، وتمييز العرب صليبة عمن سواهم، وخلص إلى أن العرب هم الأغلب في أكثر الطبقات وأكثر الأمصار وإلى بطلان هذه المقولة.
ومع وجاهة هذه الرؤية، وسلامة المنهج الكمي، إلا أننا لا نستطيع أن نجزم بما ذهب إليه، خصوصاً أن المنهج الكمي ليس كافياً في قياس هذه الحقيقة، فالعدد ليس كافياً في تقدير أثر العلماء في الفكر العربي القديم، فالتأثير مبني على ما يحدثه العالِم في جيله وفي أمثاله من العلماء من أثر، وما يضيفه أيضاً في العلم نفسه، يجعل الدارسين اللاحقين يترسمون خطاه، ويسيرون وفق رؤاه، وكأنهم نسخ مكررة عنه. ومعلوم أن هؤلاء ليسوا بالكثير في كل زمن أو عصر، ولو عددنا العلماء الذين أسهموا في صناعة الحضارة الإنسانية بصورة كبيرة لتمكنا من حصرهم.
ومادام الحديث هنا متصلاً بالفقه كما في الدراسة المذكورة فإننا نستطيع أن نقف عند أصحاب المذاهب الأربعة (أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل)، فليس فيهم من هو عربي غير مدافع سوى محمد بن إدريس، أما أبو حنيفة وابن حنبل فهما فارسيان، وفي نسبة مالك بن أنس إلى صبيح شك، وكثير من يرى أنه بالولاء.
وهؤلاء هم الأعلام، وقد انتهى إليهم فقه من سبقهم، وتبعهم من لحقهم، فما القول إذا كان فيمن سبقهم جمع غفير ممن ليسوا من العرب، وكذلك فيمن لحقهم وكانت لهم يد طولى في الإفتاء والتدريس، والتصنيف حتى ولو لم يكونوا في العدد يصلون النصف كما في الدراسة المذكورة، فإن ما قاموا به من الأثر يتجاوز هذا المقدار ويؤكد حقيقة أثرهم الكبير في بناء الحضارة العربية.
وهذا القول إنما يتصل بالفقه، فأما إذا تجاوزنا ذلك إلى السيرة ورواية الأشعار والأخبار، واللغة والنحو والبلاغة والنقد فسنجد أن عدداً كبيراً ممن كانت لهم آثار كبيرة لم يكونوا من العرب، فمدون السيرة ابن إسحاق وهو ليس من العرب، وفي رواية الشعر نجد حماداً الملقب بالراوية وخلفاً الأحمر وغيرهما من رواة الشعر وشراحه في مقابل العدد اليسير من أبناء القبائل العربية، وفي النحو سيبويه وكتابه صار الأصل الذي قامت عليه دراسات النحويين بعده، وفي البلاغة والنقد الجاحظ وعبد القاهر، وهي الأسس التي قام عليها كثير من الدراسات اللاحقة.
ولو رغبنا بالبحث في تراجم العلماء في سائر الفنون وتتبع أصولهم فإن القائمة ستطول، وسنجد عدداً كبيراً ممن وضعوا قواعد العلوم وكانت أسماؤهم مشهورة في زمنهم، خاصة في القرون المتأخرة حين تخفف الناس من ذكر أنسابهم، ولم يعد كثير منهم يعلم أصله أو يعتد به خاصة بعد غلبة غير العرب على شؤون السلطان في القرن الرابع وما بعده.
وليس التفسير الاجتماعي والتاريخي وراء هذه الظاهرة عسير المطلب، وكنت قد تحدثت عن طرف منه في مقالات سابقة بعنوان «أبحاث في الهوية»، وذلك أن غير العرب وجدوا في العلم والمعرفة أقوى سند لهم أمام أصحاب الدولة (العرب) الذين يستندون إلى قبائلهم تارة، وإلى سابقتهم في الإسلام أخرى، وأما هؤلاء فقد فارقوا أهاليهم وأوطانهم، ولم يكن لهم من طريق ليستبدلوا أهلاً بأهل، ووطناً بوطن إلا العلم وطلبه والانكباب عليه والانحياز إلى أصحابه والمشتغلين به ليتخذوهم أهلاً ومن علمهم وطناً يأرزون إليه، وبه يلوذون حتى تم لهم ما أرادوا وصاروا يضارعون العرب مكانة وأصالة.