يجوب المدرسة بقدميه القلقتين كمن يبحث عن شيء أضاعه. يسترق بعينيه شرفات التلاميذ، ثم يقف عند شرفة المدير مبتسمًا، كأنه يداوي بذلك صمت لسانه وسكون أذنيه، ذلك السكون الذي يدفعه لفعل الكثير من الأشياء الخارقة التي لا تخطر على بال أحد غيره؛ فتتوجه صوبه العيون. يبتسم ابتسامة المنتصر، ذلك الذي نال مبتغاه. يهرب من حيث أتاهم، ويتزود بذلك الفوز أيامًا، ثم لا يلبث أن يعود إليها.
اختار لنفسه أوطانًا فيها، لا يشاركه أحد في جلوسه وعزلته، ترحاله عبر سنيّ الدراسة مع أقرانه من فصل إلى آخر.
وتلك الصخرة الضخمة الواثبة في أرض المدرسة وطن آخر يرتاده، يجلس القرفصاء فوقها باعثًا بصره على امتداد العراء الواسع متأملاً. يشتاق إليها بقدر شوقه إلى الكلام، إلى سماع ضجيج هؤلاء الذين يتقافزون حوله، وصوته المبحوح خلف سراب الكلام، وآهات موجعة بحجم يتمه وافتقاده وتحديقه بهم. إيماءاته المحببة إلى نفوسهم كانت تصيبه بالغبطة؛ فيحرك كلتا يديه ويصرخ صرخته اليتيمة بينهم؛ فيختلط ضعفه بقوتهم؛ فيزداد صراخه مزهوًّا بينهم. لا يعبأ بجلبة وضجيج التلاميذ؛ لأن عوالم أخرى تتراءى له دونهم. يغادر المدرسة بلا استئذان، ويعود إليها بلا استئذان. أبوابها مشرعة أمامه، يؤوب إليها كما يؤوب المسافر إلى أرضه بعد طول غياب؛ ليعانقهم بفرحة المشتاق إلى أترابه، يمنحهم الحب بمقلتيه الفرحتين، يضحكهم بحركاته البهلوانية التي يجيدها، ويضحكونه، ولا يخلو الأمر أحيانًا من بعض المشاكسات. وبذكائه المعهود يوقعهم في فخ حماقاتهم الصغيرة التي لا يلقون لها بالاً. يشير إليهم بالعراك، وعندما يزداد الأمر سوءًا، يغادرهم خلسة مخبرًا المعلم؛ فيشتت جمعهم، ويضحك ضحكته الوحيدة تلك؛ فيغضبون منه؛ فلا يلبث أن يعود أدراجه إلى أن تنجح محاولات الصلح بينهم؛ فينكبون حوله معانقين، يدس في أيديهم ما جادت به حقيبة القماش خاصته، هذه التي يتأبطها دون غيره درويشاً صغيراً، يضرب في فجاج الأرض. غريبة مثله، لا تماثلها أخرى في شكلها، يحمل عليها بقايا كتب قديمة، حصل عليها بعد طول رجاء أمام شرفة المدير. أما نصيب الأسد في الحقيبة فكان لثمار النبق واللالوب التي يجلبها من غابة القرية التي تجاور المدرسة شرقًا. يتسلق أشجارها صباحًا بساقيه النحيلتين؛ فينثر خير حقيبته على من يلتقيهم من التلاميذ. يلتفون حوله؛ لينالهم كرم الطيب بحقيبته البيضاء مثله. يستشفون ما فيها من ثمار كثمار قلبه التي تفوح عطرًا، يغشى الجميع. وتلك فرحة أخرى، يصنعها لنفسه، ويفرح بحصادها. ويذهب لأكثر من ذلك في سخائه؛ فيقوم بتوزيع ما يملك من نقود مقابل عمله في الحواشات مساء على فقراء التلاميذ؛ ليسكت صراخ بطونهم التي تُدمي قلبه الوليد. كان بينهم درس آخر، ومعلم يعلمهم معنى الثبات في الهاوية، وحكاية لا يملون سماعها. ومن فرط تعلقهم به كانوا ينسجون حوله الروايات بعقول غضة بلين الحديث ورقته، بيد أن كثيرًا منهم لا يدرك من أين يأتي الطيب..
وما سر تعلقه الشديد بالمدرسة..؟ ووحده بينهم يدرك أصل الحكاية، معنى أن يحيا رغم الموت، وينتصر في أوج الهزيمة.. قد يصرخ يومًا بقدر شوقه إلى الكلام، ويخترق ضجيج الحياة سكونه، أو قد يموت دون صراخ، ويوارى دون ضجيج، يتخفى رويدًا رويدًا خلف السراب، مدرسة قادمة.
** **
- جيهان عمر