وفي القَلْبِ أكْثَرُ منْ مَنْزِلٍ
لِمَنْ خُلِقَتْ فِتنةً آسِرَةْ
فَتَحْتُ لها كلَّ أبوابِهِ
لتَحْبِسَني عينُها السّاحِرَةْ
ولسْتُ سِنِمّارَ لكنّنَي
شَكَرْتُ لمُحْسِنَةٍ كافِرَةْ
سواء أكان هذا النص الشعري المكون من ثلاثة أبيات قد جاء كاملاً، أم أن له بقية، ومقتضيات النشر على (المغترد) أظهرَتْ لنا منه هذه الثلاثةَ فقط، فإن التجربة القرائية الأولى تطرحه كتجربة شعرية كاملة، ولدينا جنس أدبي قائم بذاته، اسمه المقطّعات الشعرية في الشعر العربي القديم، من الممكن أن نضم إليه هذه المقطوعة الشعرية النفيسة.
تشع في هذا المقطوعة مجموعةٌ من العلامات التي تكتب للنص أدبيّته وجماليته؛ فالشاعر عبد الرحمن الخميس يتواصل على نحوٍ مبدع مع إخوانه من الشعراء من قبله، وذلك حين يخبرنا المطلع عن تعدد منازل الشاعر (وفي القلب أكثر من منزل)؛ ليتوافق مع أبي تمام حين قال: (كم منزل في الأرض يهواه الفتى) غير أن منازل «الخميس» ليست في الأرض، وإنما في القلب؛ وهو ما يجعلنا نستحضر أبا الطيب المتنبي ومطلعه الآسر: (لكِ يا منازلُ في القلوب منازلُ)، وكلا النصين (نص أبي تمام والمتنبي) يتفاعل مع الذاكرة المكانية التي يأهلها الحبيب: (وحنينه أبدًا لأول منزل) عند أبي تمام، و(أقفَرْتِ أنْتِ وهنّ منكِ أواهِلُ) عند المتنبي. أما عبد الرحمن الخميس فيعالج حالة شعرية تتجه إلى هذه المحبوبة مباشرة. وكم كنتُ أود أن يحذف الشاعر من عنوان النص كلمة (براغ) التي تدفع مخيلة القارئ إلى أن يجمع كل المعاني الواردة في النص لعاصمة جمهورية التشيك، وأكبر مدنها وأجملها على الإطلاق، مدينة (براغ)، التي زارها الشاعر - على الأرجح - وكتب فيها هذه الأبيات. ولو حذف (براغ) من العنوان لأضفى على النص تعددية قرائيّة، يحتاج إليها النص الأدبي، كما يحتاج إليها المتلقي أيضًا، لكنه على أية حال تظل هذه المخلوقة (براغ) على الوجه الاستعاري أنثى قد اجتمع لها كل ما في النساء من فتنة، خاصة أن موروثنا الديني والثقافي يكاد يجمع كل صفات الأنثى في هذه الكلمة، وهو ما يفتح لنا بابًا لنعيش (مع) و(في) (براغ) بوصفها (امرأة فاتنة). هذه الفتنة كمفردة تمنحنا مقاطعُها الصوتية والنبر فيها دلالة الاختطاف القسري، ولذلك وُفّق الشاعر حين وصف هذه الفتنة بـ(الآسرة)، وبناء الفعل (خُلقت) للمجهول يضفي قدسية على المخلوق (المحبوبة)، وكأنها ليست مخلوقة عادية، ولا فتنة عادية، ولذلك لا يمكن أن نحصر الفتنة على الشاعر فقط، وإنما هي فتنة لكل من رآها، وهي الدلالة التي أفدناها من قوله: (لتحبسني عينها الساحرة) فتمام الوصف هنا بالفتنة يكتمل بجعلها ساحرة للشاعر وغيره، ولا يخفى ما في (عينها الساحرة) من استعارة أفادت التشخيص؛ وهو ما يدفع إلى أنسنة براغ وتصورها في صورة الأنثى.
للناقد الروسي يوري لوتمان مقولة مهمة في وصف البلاغ الشعري، تقول: «الشعر الذي يحمل بلاغًا شعريًا هو ذلك الشعر الذي يتواكب فيه المتوقع واللامتوقع في وقتٍ واحد. أمّا فقدان الأصل الأول (المتوقع) فإنه يجعل النص عديم المعنى، على حين أنّ فقدان الأصل الثاني (اللامتوقع) يجعله عديم القيمة». (كتابه: تحليل النص الشعري، ص179). وهذا البلاغ الشعري نجده متحققًا في نص «الخميس»؛ ففي البيت الثاني تتواصل الاستعارة التي اختط الشاعر حدودها في البيت الأول، وذلك في تشبيهه القلب بالبناء المكون من منازل؛ لتكتمل هذه الحدود في البيت الثاني حين يفتح الشاعر كل أبواب هذا (القلب البناء)، أو (البناء القلب) لتلك المخلوقة الفاتنة، وعلى نحو ما يقول ديك الجن: (أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى// فصادف قلبا خاليا فتمكنا)، فإن شاعرنا فتح أبواب قلبه على مصراعيها، غير محترز من ردة فعل هذه المحبوبة؛ لتكون النتيجة أن يقع في سجن جمالها أسيرًا، وهنا تقع المفارقة؛ فالأصل أن يحبس الشاعر هذه الفاتنة (براغ) في عينيه وقلبه؛ لأنه هو الرائي، لكن العكس هو الحاصل؛ فقد حبسته هي بعينيها، بمعنى أن جمال هذه المدينة قد حبس عينه عن النظر لغيرها، فصار نظره وقفًا عليها، لا يتعداها إلى غيرها، والمفارقة أحد أهم الإجراءات التي تُكسِب الشعر دهشته، وتحقق اللامتوقع الذي عناه «لوتمان»؛ ولذلك آثر الشاعر تكرارها في البيت الثالث (الأخير) حين جعل (براغ/ المحبوبة) محسنة كافرة؛ فهي مع جمالها الأخّاذ لا يستطيع معها الشاعر صرفًا ولا عدلاً، حين أخذت بمجامع قلبه، فسجنته وأوقعته أسير فتنتها، فكأنها قابلت الإحسان بالإساءة، وهو الجزاء الذي حدث لسنمار، لكنّ شاعرنا نفى عن نفسه أن يكون قد خاض نفس تجربته؛ ربما لأن سنمّار - في قصة مثله المشهور - قد فكّر ودبّر واحتال في بنائه، الذي بناه للنعمان، وجعل سر نقضه بيديه هو فقط، أما شاعرنا فلم يحتل ولم يدبر أو يحترز، وإنما فتح أرجاء قلبه على مصراعيها فسكنته فتنة براغ، ولم يستطع من عينيها فكاكا.
** **
د. هاني سعيد - أستاذ مساعد البلاغة والنقد، كلية العلوم والآداب بالرس، جامعة القصيم