احتضن تأوهاتها؛ ليشعرها بأوبته؛ صدته؛ ظل يعصف بذاكرته لعلها تقوده لمفردة بدونها لن يستعيد رضاها. بعد أعوام من جنوح، وترحال خارج تماس الفضيلة، يتنقل من بيدر إلى آخر.
لم يُكبح جماحه السادر في الغواية، رغم سقوطه في أعماق قاع العبث، لم تنطبق عليه نظرية تجاوز الحد للضد، لم يرشد للفظ نزعات عربدته، أو حفل بفواكه فجة أدمن هتكها، أو يانعة أعمل فيها أظافر اصطبغت بطبقات من النيكوتين بين مقص سبابة ووسطى كفه الأيسر، خوت محفظته، أدرك متأخرًا أن ما بقي له من رصيد بحسابه المصرفي، لن يكفيه لسهره الباذخ ليلة واحدة.
مع دنو جفاف معينة، قرر أن يستثير شفقة شريكته، وقد جفف مجونه الكثير من أرصدته الشخصية، تقمَّص دور العاشق المجنون، لعلها تغفر زلاته وسوء فِعاله؛ فيما كان على عهد بها تعشق الشعر، وتنظمه، خلا يومًا باستراحته، كتب قصائد لعلها تذيب أعتى المعادن، وجبالًا من جليد، قلص هامش بغيته، أن تعارضه بقصائد مشابهة؛ بيد أنها لم تثلم مضاءها أو تغير قطميرًا من قلب مسه صدأُ غفلته.
عبثًا؛ حاول اختراق هامش منّعَتِها، استحال عليه اختراقه؛ لاذ بآخر ما بجعبته، وضحى بأغلى ما كان يستحيل عليه التفكير في بيعه؛ ورث عن والدته دارًا ازدانت بقصر يشار إليه بالبنان، كان يلوذ به حال انفراط من حوله؛ بالغسق، يقصده يستعيد فيه أيام دلاله وحظوته.
عاهد والدته قبيل احتضارها بساعات، فيما كان بالعشرينات أن لا يبعه، ومع وفاتها ولمَا يمضي على وفاتها شهرين، ارتبط بشريكته، اختار أن يزفها إلى بناء آخر داخل سور القصر، واتخذ منه سكنًا، رفض بحياة أمه أن يتزوج خشية خدش أمومتها بامرأة اختارها هو . عرض أن يمنح زوجته القصر رفضت أن تكون محرضته على الإخلال بوصية أمه؛ ظل مع شريكته أعوامًا، لم تتطفل بسؤال عن القصر، أو رغبة بمشاهدته من الداخل، ولا يفصل سكنه عن القصر سوى سور داخلي بجانب منه باب مقفل منذ وفاة والدته.
آب لحضن عشه، لعله يبلسم جراحَ تحملتْها طوال مشوار طيشه؛ باشر يغدق عليها هدايا باذخة؛ لم تسأله عن مصدرها ولم يبادر بإبلاغها، ردها كان عمليًا لا ثرثرة مساوم، حرمت على يدها أن تمس هداياه، لم يجد بدًا من أن يضعها بصمت على طاولة تسريحتها؛ في دائرة نفوذ مرآتها كي تضخمها في عينيها، لعل الفضول يقودها بخلوتها أن تستكشف كنهها، بيد أنها لم تفعل.
مضى عامٌ كامل، وقد احتلت هداياه مساحة غرفتها، لم يصغِ لتوسلاتها بأن يجمعها ويبعدها، جل ما قبله لعلها تقبل، أقسم أن لا يبتاع هدايا أخرى، حتى لا يكشف إفلاسه وقد أنفق قرضًا برهن القصر لدى أحد البنوك، ظل سني طيشه متخلفًا عن السداد، فيما البنك يتربص به، ينذره، خشية أن تعلم شريكته فيما لو قاضاه سيعرض القصر للمزاد، أخيرًا فاوض البنك أن يبيع القصر بعد تقييم قيمته ويدفع له البنك ما تبقى إضافة للمبلغ السابق الذي اقترضه وبدده على بنات الهوى لم يظل معه سوى الفتات مقارنة بما كان يؤنس عربدته ومجونه، آب إلى حضن أسرته، بهداياه لشراء موقف شريكته المناكف لعله يظفر برضاها. لم تكن تعلم بتلك التفاصيل، لا يهمها إن كان باع قصرًا منيفًا، أم أثقل كاهله بقرض لا لزوم له، مرت أعوام يراوغ.
ذات يوم عرضت عليها موظفة المصرف الذي تتعامل معه، إن كانت ترغب بشراء قصر مجاور لبيت الزوجية الجامد.... استقصت الأمر تأكدت من تفاصيل التفاصيل، ظلت تصارع مرارات ندوب ليالٍ وأيام تعكف على تربية ولدين توأم كانا أنيسا وحشتها قادها خوفها على مستقبل فلذتيها؛ أن تستعيد القصر؛ تشتريه من البنك بأقساط مريحة وهامش ربح معقول، تكتمت على الأمر مشترطة على البنك أن لا يفش لأحد أنها استعادته.
تمر أعوام؛ وبالتزامن مع دفعها قسط الشهر الأخير للبنك بعد عشر سنوات، كانا وشريكها يعيشان كأخوين، هام طموحه استعادة ظل أسرة، فكت رهن القصر، وأوكلت محاميًا ينهي نقل ملكية القصر لحساب ابنيها اللذين تخرجا من الجامعة، كرمتهما بحفل اقتصر على الأسرة بمن فيهم والدهما.
صفعت بلادة زوجها بمفاجأة لم تدر بخلده، أو يتخيلها، قدمت لكل واحد من ابنيهما، صورة من صك ملكية القصر، وأجرت قرعة على طابقي القصر، اعتمر محياه صمت مطبق، ظانًا أن أملًا بات يلوح في الأفق عن رضاها عنه، وخشية أن يزمع في نقاش يكشف سيرته التي ظلت طي الكتمان، ولداهما لم يلاحظا أي تباعد بين أمهما ووالدهما، يخلدان للنوم بغرفة واحدة، بيد أن سورًا وهميًا يستحيل عليه أن يتجاوزه.
أبلغت شريكها عزمها التكفل بنفقات عقد قرانهما، وأمام الأهل والأقارب تشيد بشريكها وتدعو له لتحمله ألف باء زواج نجليهما التوأم بمفرده رافضًا مساعدتها، ولقد رحب أن يعقد قران نجليه التوأم على ابنتي أختها الوحيدة.
وما أن تمت مراسم الزواج انتقلا وعروستاهما إلى القصر، بقيت أمهما ووالدهما على رتم واحد، لم تتبدل مواقفها ولم يكرر توسلاته، بيد أن غياب نجليهما عن المشهد منحهما هامشًا من النقاش والجدال.
في إحدى الليالي رأت شريكته أمها بمنامها؛ ترشدها وتعظها أن تقطع صلفها مع زوجها وأنها ستعذب رغم ما قدمت من صبر وتعقل، تردِّد في غمرة نومها باسم زوجها، أيقظه صياحُها، مستبشرًا وقد سمعها تنطق باسمه لأول وهلة منذ عقد من الزمن، ربت على كتفها، فيما كانت تردد نعم نعم سأنفذ نصيحتك.. لم يسألها، واكتفى بقوله: لعله خير..
مساء اليوم التالي، أزمعت على زيارة ولديها، وقبيل أن تشرع بأول خطوة، عرضت عليه أن يرافقها، بعد أن كان كل منهما يزور ولديه منفردًا؛ دلفا سوية، للدور الأول واطمئنا على أن حياته طبيعية مع زوجته، وما أن ارتقيا أول درجة في السلم للدور العلوي لتفقد ابنهما الآخر؛ سمعا زوجته تعيِّره بوالده، تتحدث عن صور غراميات والده مع فتيات ليل، فيما كان يكيل لها شتائم غير مصدق ما يسمعه وما شاهده من صور تعرضها كأنما هي بطاقات حروف خاطفة بعرضها معلم صف أول من الصفوف المبكرة مكررًا إنذارها إن لم تحرق الصور حالًا سينتزعها منها قسرًا اشترطت عليه أن توافقه رأيه بحرقها، إذا كتب الدور الذي يقيمان فيه باسمها، مبررة انتهازيتها خشية أن ينهج سيرة والده، رفض قطعيًا وهددها بالطلاق.
سمع والداه احتدام الموقف مع زوجته، رنَّ جرس الباب، فقطع عليه النطق بطلاقها؛ صمتت وقد شاهدت خالتها ووالد زوجها يدلفان يدًا بيد، لم تسألها أو تنهرها أو تنفرد بابنها، وكأنها لم تسمع شيئًا، فيما والده في حالة ذهول مما سمع بنكس رأسه، ضاقت زوجة ابنها ذرعًا من تجاهلهما ما سمعاه، انفجرت صاخبة مصممة على كتابة الدور الثاني باسمها مهددة بالأسوأ، استأذناهما وغادرا ولم يعقبا ببنت شفة.
ظل زوج ابنة خالته يعاني ويخشى من رد فعل طائش منها، ومع زيادة الضغوط المسائية عليه قبل بشرط أن يكتبه وقفًا باسم مولوده القادم بعد ولادتها إياه. وما أن ولدت، خيرها أن تقبل بوقف الدور العلوي سكنًا على ابنهما، أو أن يطلقها وتفعل ما تشاء، قبلت، وتم له ذلك وسلمته الصور، فأحرقها فورًا، وخلال توجهه لعمله صباحًا، لم يكن ذاق نومًا كافيًا، قضى في حادث مروري.
الابن الساكن بالدور الأرضي وزوجته صدر قرار قبولهما ببعثة خارج البلد، تجهزا وقضيا أعوامًا أربعة، أنجبا خلالها بنتًا، وتمضي الأعوام سراعًا، عاد لبلده، ولم يمضِ شهرٌ واحد حتى مات والده.
انقضت عدة والدته، عرض عليها أن تختار الإقامة معه أو مع أرملة شقيقه، وافقت أن تقيم بقية عمرها مع حفيدها وأمه بنت أختها تؤنسهما، ظلت معهما حتى بلغ حفيدها الثامنة عشر عامًا، لم يكن يعلم عن أن البيت أوقف عليه حصريًا للسكن ومعه أمه. قبيل تخرجه وابنة عمه من الثانوية، استشار والدته في زواج ابن أخيه بابنته، فقالت: لا بد من مفاتحة أمه في الأمر، قبلت شريطة أن تكتب خالتها لها بيتها وتظل مع ابنها وزوجته بيد أنها لم تجد من زوجة ابنها قبولًا، خشيت أن تظل معهما، وتجهز على ما بقي من حبل الوفاق، فكرت أن تعود لبيتها العتيق، بعد أن أمضت خمسة أعوام تغمرها السعادة بحفيدها وحفيدتها، فيما ابنها؛ عمهما يغدق عليهما بمحبته؛ رعايته وماله، لكنها فضلت العيش مع ابنها وزوجته في الدور الأرضي.
توفيت والدته، لم تحظر أرملة ابنها، طيلة فترة العزاء، وبعدها، تقدم رجل لخطبتها، وتم زواجهما دون ضجيج، كان زوجها يطمع ببيتها الموهوب لها، وقد شغفت به حبًا، أغراها بكلامه المعسول، وبهداياه الفاخرة، استوطن نياط قلبها، تضيق بابنها وزوجته «ابنة أختها»، حين يزورانها، حظرت عليه اصطحابها حين يزورها...، ظل يزورها لدقائق، محض أداء واجب وينصرف. وبغمرة سكرتها بحبيبها، الذي كان يصغرها بعقد من الزمن، أطاح بلثام الحب المزيف، وخيرها بين أن يطلقها أو يتزوج عليها ويسكنها معها أو أن توقع على عقد بيع بيتها الذي وهبته لها والدة زوجها المتوفي، والذي بموجبه وافقت على زواج ابنها بابنة عمه؛ ابنة أختها.
وافقت تغمرها الثقة بأن يستمر معها، لا يشاركها فيه أحد، بدأ يعنفها، وقد تعرف على فتاة فائقة الجمال تصغره بخمسة عشر عامًا، انتهى الأمر أن تزوجها وأسكنها معها، لم يعد يحفل بها أو يبيت ولو ليلة في الشهر، ظلت قابعة في غرفة واحدة.
ضاقت زوجته الثانية ذرعًا بوجودها، مذكرة إياه بأن العصمة بيدها بعقد القران، لم تكف عن تحريضه على طلاقها؛ خيرته أن يتنازل لها عن ملكية البيت؛ أو تخلعه دون مقابل، كان مفتونًا بها أيما فتنة، فيما ظلت زوجته الأولى تصارع آلام الجحود، ومآسي النكران، لم تعد تطيق العيش معه، تسللت ليلًا وقصدت بيت ابنها، لم يستوضح ابنها لماذا وكيف، وفي أحد الأيام بعد عودته وزوجته من عملهما، أوقف سيارته بمرآب القصر وما أن ترجلا، سمعا صوت طرقات على البوابة الخارجية، توجهت الزوجة إلى سكنها، واتجه زوجها مستعلمًا عن الزائر وإذ به موظف بالمحكمة يطلب توقيعه على استلام طلاق أمه.
عاد مثخنًا بجراح الظلم، يردد ماذا عملت أمه، ارتقى السلم بصعوبة من هول الصدمة، مقررًا عدم إبلاغها إلا بالوقت المناسب، توجه بعد أيام إلى بيت جدته الذي أضحى ملكا لأمه مقابل فك اشتباك فضيحة صور والده، الذي وهبته جدته لأمه وغادته، بالكاد فتح له طليق أمه، وفاجأه بسؤال عما جاء به ولم يعد بينهما علاقة، فقال له سأرد لك الصاع صاعين، وعليك أن تغادر البيت بغضون ثلاثة أيام، سمعت زوجته التهديد، فقالت: لا يهمني ... من حقك أن تطرده وإن لم تطرده لطردته، فالبيت صار ملكي وحدي، استغرب مستنكفًا ملاسنتها، اكتفى بتذكيرها: «زوجته وتطردينه»، يردد بنفسه: «يستحق لقاء نكرانه ونذالته مع أُمه»، مثنيًا تتزوجين بمن يكبرك بأعوام لا أصدق أن ملكك البيت وهو لا يملكه، تدخل الزوج، وكشف له أن البيت اشتراه من أمه المطلقة.
صممت ضرة أمه السابقة أن يسمع منها قنبلة زلزلت الأرض من تحته، وبعنجهية سألت زوجها: لمن ملك البيت الآن؟ تلعثم، كررت عليه، لم يجبها، ردت عليه بصلف سأخلعك، ونظرت لابن ضرتها وقالت البيت من نصيبي قبيل أن أنتزعه من هذا. إن البيت تعويضًا لي وقد حرمت من والدي؛ جدك هو من غرر بأمي وتزوجها عرفيًا ولديّ إثباتات فاخرج بسلام وثق بما تقوله عمتك.
** **
- محمد المنصور الحازمي