فرغت من كتاب عنوانه: الأمير عبدالله بن إبراهيم العسكر (1277 - 1350) سيرته وأخباره، تأليف عثمان بن عبدالعزيز العسكر، تقديم عبدالله بن بدر العسكر محافظ الأفلاج سابقًا، صدر عام (1440-2019) عن دار العارض للبحوث والدراسات والنشر، ويقع في (252) صفحة، وهو الثاني ضمن سلسلة عنوانها: في تاريخ المجمعة ومغانيها، وأفاد المؤلف بوضوح من الوثائق والشعر والروايات الشفهية والكتب المطبوعة والمخطوطة، وفي أسلوبه رقي لغوي وأدبي.
يتكون الكتاب من تقديم ومقدمة ثمّ خمسة فصول يعقبها صور ووثائق وفهارس، وتُعنى هذه الفصول بخبر المكان والإنسان والإمارة والإدارة، وفيها نتف من بلدانيات وتاريخ وأنساب وشعر ضمن أخبار عن المجمعة وأسرة العسكر والأميرين إبراهيم ونجله عبدالله وإمارتي المجمعة وعسير، ولا غضاضة في الاختصار إِذ صدّر المؤلف كتابه بنقل عن الإمام المقرئ أبي عمرو بن العلاء يقول فيه: «الحق نتف، ويُكره الإكثار في كل باب، وأحسن الأشياء أن يُقصد إيجاز الكلام».
وأذكر أني قرأت أو سمعت كلمة جميلة تعلن أن من أرخ لمؤمن فكأنما أحياه، والحكايات من جنود الله يقوي بها قلوب أوليائه كما أورد الباحث نقلاً عن طبقات الشافعية الكبرى، وقد أحسن المؤرخ العسكر صنعًا بحفظ تاريخ منطقته، وإرث أسرته، وأخبار رجالاتها ورجالات البلدة، ونما إلى علمي أن لديه المزيد في طبعة أخرى أمل أن تكون قريبة، ويمكن أن يضع داخل فصولها عناوين فرعية تعين القارئ على المتابعة، وتحفظ مسيره مع الكتاب والسيرة.
اشتهرت المجمعة بالعلماء والمفتين وحلقات العلم والقضاة حتى تخرج على عالمها الأبرز الشيخ عبدالله العنقري نحو خمسة وثلاثين قاضيًا، ومن أسرها أسرة العسكر التي ترجع لآل بدر من الجلاس من عنزة، وعرفوا بلقب العسكر لمشيهم معًا في صفوف تماثل صنيع الجند والجيش؛ ولأنهم بهذا التماسك أضحوا أمراء متعاقبين على المجمعة، وخلصت الإمارة للفرع الذي يعود إليه المترجَم، واستفاض لقبهم بعد أن ثبت بالوضع، والألقاب تنزل من السماء على رأي الوزير القفطي.
ولأسرة العسكر علاقات مع بيوت الحكم خاصة في الرياض، ولهم أخبار في مقاومة الجيش الغازي القادم من مصر بأمر من السلطان التركي، واضطربت علاقة المجمعة -مثل سائر بلدان نجد- مع الرياض إبان فترة حكم عبدالله بن ثنيان القصيرة التي لم تكن ذات هناء وسعادة لما وصِف به من شدة واستطالة على أموال الناس، وإرهاقهم بالقتل، وإن حمِد التاريخ له مشاركته في طرد جيش الباشا من نجد.
لذا استمرت إمارة إبراهيم بن سليمان العسكر على المجمعة ستة وثلاثين عامًا تخللها وجود سرايا في البلدة مثل سرية ابن صقر التابعة للأمام تركي بن عبدالله، وسرية ابن جراد التابعة للأمير محمد بن رشيد، وكان إبراهيم من خواص الأمام عبدالله الفيصل، وصديقًا قريبًا لسعود الفيصل، وحين قدم الرياض وجد سعودًا يقرأ ديوان ابن المقرب العيوني ومعه سيفه، وهو ديوان حماسة وأنفة، فذهب للإمام عبدالله وقال له: أكرم أخاك والله إني جئت رجلاً لا يصبر على حالته! ومقولته الجريئة هذه تدل على أنه عيبة نصح ومعرفة بالسياسة وأدب الفروسية، وسمع المؤلف مع أخيه الشيخ اللغوي أ.د.عبدالمحسن ثناء الأمير سعود بن محمد بن عبدالعزيز بن سعود الفيصل على هذا التصرف.
كما رعى منافع بلدته وحمى مصالح مرتاديها حين أخبر الأعراب القادمين للبيع والشراء في أسواق المجمعة عن نية بعض أمراء النواحي المجاورة للسطو عليهم فتمكنوا من النجاة شاكرين للأمير موقفه الذي يسهم في ازدهار أسواق البلد، ويزيد من حركتها التجارية، والقصة يرويها المؤلف عن حفيد الأمير الشيخ جهاد بن حمد العسكر.
وتزوج الأمير إبراهيم زوجته الأولى من قبيلة مطير، وأنجبت له ابنه عبدالله (1277 -1350) الذي نشأ في البادية بضع سنين عند أخواله بعد طلاق أبويه، ولم ينس الرجل فضل جديه لأمه ضيف الله وقمرا؛ فأشركهما في أضحية سنوية، ومن بره أن وصى بأضحية أخرى لزوجة والده وأبويها؛ علمًا أن والده إبراهيم تزوج ثلاث زوجات كلهن من البادية، وفي البداوة - على ذمة المتنبي والعارفين- حسن غير مجلوب!
ثمّ توفي الأمير الأب عام (1314) منصرفه من حائل عقب فراغه من زيارة لأميرها محمد بن عبدالله بن رشيد بعد أن جمحت به فرسه، وجعل فلبي وفاته أخطر حدث في تلك السنة، وحين مات ترك وقفًا ناجزًا للمساجد والمياه والعلم وطلبته، وخلّف ثلاثة أبناء هم عبدالله وأخواله العوارض من مطير، وحمد وأخواله التواجر من عنزة، وسعد وأخواله الصالح من عنزة وليس لسعد ذرية من الذكور، وإلى إبراهيم وذريته الباقية ينصرف إطلاق بيت الإمارة عند المتأخرين.
أما الأمير عبدالله بن إبراهيم فدرج في بيت والده ووعت مسامعه أحاديث آبائه وأعمامه وباقي أسرته وقامات البلدة في العلم والرأي والشجاعة، وهي أحاديث طغت عليها أنباء الصراعات السياسية البغيضة، ومن المؤكد أن الحس السياسي، والوعي بالوقائع وما خلفها تكونا لدى الفتى من تلك الخبرات المتراكمة، وإن التأهيل قبل التمكين لسر من أسرار القيادة المؤثرة، وسبب من أسباب استمرار الزعامة والمجد، وهي سمة تحرص عليها الأسر العريقة كي تحتفظ بموقعها وتأثيرها.
فورث عبدالله الإمارة في آخر سنة من عهد محمد بن رشيد ثمّ في عهد خليفته عبدالعزيز المتعب الذي كان جبارًا حطمة لم يستمع لوصية عمه الراحل؛ فأبغضته جلّ الديار النجدية وهبت للخلاص منه قدر استطاعتها. وبعد ظهور عبدالعزيز بن سعود على مسرح الأحداث عام (1319) بقي الأمير العسكر على عهده مع حائل، وحرص على تجنيب بلدته الحراك العسكري المحيط بها، فلم يتضرر من أي جيش مع إحاطتها بالمجمعة من غالب النواحي؛ وبعد مقتل ابن رشيد دخل في طاعة الرياض عام (1326)، وتقبل الملك عبدالعزيز دخوله وأكرم وفده، واستيقن أن الوفاء خلق أصيل في الرجل فقدره حق قدره.
من مواقفه أنه صدّ عن المجمعة رجلاً ينشر أخبارًا توهن الناس، وصدر عن آخر خطأ فأوعز لكبار أسرته بأن يصلحوا شأنه فكفوه مؤونة التأديب وحفظوا مكانتهم المتصدرة في قومهم، وحال دون لجوء البيوت الشريفة إلى القضاء حتى لا يصبحوا قالة بين المجالس، وسعى في الصلح بينهم بضمان كبرائهم، وكان يشهد على قضايا الصلح الكبيرة بنفسه لتقويتها وزيادة الثقة بها.
وله عناية بالزرع وغرس النخل وحفر الآبار، وأعان عبدالعزيز العبدالله الشبانة في ابتكاره قناة يجري الماء فيها من وادي المشقر إلى المزارع فتسقي ثمانية آلاف نخلة عام (1317)، وحدّد لأهل النخيل خارج أسوار البلد أرضًا من أملاكه ليبنوا فيها مسجدًا يجمعهم للصلاة، وكم من غريم أغاثه، وفقير وذي حاجة أعانه، وفي آخر عمره لمح طفلاً يتيمًا مع أخيه فدعاه وسلّم عليه، ومسح على رأسه ونفحه ببعض المال، وظلّ الطفل يذكر للأمير لطفه البالغ حتى حين أصبح في منصب كبير وله اسم شهير وهو معالي الشيخ عبدالعزيز التويجري.
أيضًا حرص الأمير ألا يطول التجار إجحاف أو عنت من جباة الزكاة فنشاط بلدته اقتصاديًا مهم لديه، وحين زار الملك عبدالعزيز المجمعة اقترح العسكر على الملك التعريج على شاعر هرم له استرسال في الشعر ضد ابن سعود قبل أن يستتم له الأمر؛ فكانت الزيارة تطمينًا للشاعر الذي خرج منها بصلة مالية مستمرة ما دام حيًا، وما أعظم أجر الساعين في الصفح والغفران.
ولا غرابة أن يفعل الملك ذلك وهو الذي كتب للعسكر كتابًا استهله بالعذر قبل المؤاخذة، وأبقى للصلح والمصافاة مواضعًا، وسلّ سخائم الصدور بالعفو العام لأهل المجمعة عمّا سبق من فائت وفلتات، ونصّ في كتابه على نسيان ما سلف من أخطاء أرفعها الرقاب إلى أصغر كلمة فهي «دمدوم وجرف مهدوم»، وإن تصفير المشكلات، وبث روح التسامح والسلم المجتمعي لمن أخلاق الزعماء الخالدين.
وبعد دخول عسير ضمن الدولة السعودية تعاقب عليها خمسة أمراء خلال أقل من أربع سنوات؛ فرأى الملك عبدالعزيز أن يبعث لهم رجلاً تام العقل عظيم البركة، فانتقى لهم عبدالله العسكر في قصة مروية تدل على ذكاء الرجلين وفطنتهما ولم ترد في الكتاب وظلّ أميرًا على عسير أكثر من سبع سنوات أدار فيها الجوار المضطرب، والقبائل المتنافسة، والأطماع التي لم تخبو حينذاك باقتدار كبير، وعدل وتواضع جعلته المحبوب الرضي المقبول لدى أهل تلك البلدة، فزوجوه وفوق ذلك سمى بعض الناس مواليدهم عليه حتى بعد مغادرة المنطقة وزاد أحدهم أن سمى ابنه عبدالله عسكر!
ومن أعماله المفصلية فيها أن أرسل بعض رؤوس أهل عسير إلى الرياض بمحض إرادتهم ودون عناء أو ممانعة وذلك بفضل ذكائه ونباهته، فاستبقي بعضهم في العاصمة حتى تهدأ الأمور ويزداد استقرارها، كما شهد على مواثيق ومفاوضات مع اليمن والإشراف ممثلاً عن الملك عبدالعزيز، واجتهد بأن يجعل لرؤساء الناس في عسير يدًا في حفظ الأمن والأخذ على يد المعتدي؛ حتى يعظم شعورهم بالمسؤولية وتزداد مشاركتهم الإيجابية.
ويبدو لي أن أسرار تميز الأمير العسكر بعد التهيئة الأسرية أنه سبر العقبات التي واجهت أسلافه، وقرأ التاريخ وفهمه، واقترب من العلماء والفقهاء ليفيد منهم، وكي يعزز مكانته لدى الرعية، وصنع الرجال مثل سليمان وعمر نجلي أخيه، وعبدالعزيز ابنه، وتركي بن ماضي، وما كان يصيخ لواش البتة، ويتيح لكبراء الأقوام مباشرة ما لا يحتاج لتدخل الأمير أو القاضي، ومن فضائله إغضاؤه عن كلّ عوراء؛ فمن ذا الذي تصفو سجاياه كلها؟
ومنها أن سره لا يعلم به أحد، ويقدر للمواقف ما يناسبها قبل نزولها، ويحتوي الانتقادات بمسلك حسن، ولم يحمل ضغينة على أحد أو يرث عداوة تجاه بلد أو فئة، ولا يحفظ عليه التاريخ غلطة بحق أي أسرة ولو كان حبل الوداد بينهما مقطوعًا كما يشهد بذلك معالي الشيخ عبدالعزيز العبدالمحسن التويجري، وهو عفّ السيرة في المال ويمنع موظفيه من الاستطالة في أموال الغير لدرجة نهيه عن رتع مطاياهم في زروع الآخرين حسب شهادة الراوية المعمر الشيخ عبدالله المحمد الفاخري.
بينما شكر المؤرخ القاضي هاشم بن سعيد النعمي أثره في إقرار الأمن ومنع الشقاق، ووصف غيثان بن جريس الإمارة في عهده بأنها ذات قرار سياسي وإداري، وجزم تركي بن ماضي أن العسكر موفق في أقواله وأعماله، وقال عنه: كان حكيمًا سياسيًا محنكًا، وعاد معالي الشيخ التويجري ليصفه بأنه كبير النفس يقظ الوعي والفهم، وروى د.محمد بن عبدالله آل زلفة عن خاله حسين بن صمان آل سالم-الذي أدرك عهد العسكر- أن وقته كان سكينة ورحمة وأمنًا.
وحين مات بعد أن استعفي وقفل إلى بلدته الأثيرة المجمعة؛ تكدر الملك عبدالعزيز وقال لمن معه: مات أحد رجالي، وإن طريقة الملك في اختيار الرجال سواء من أبناء البلد أو الوافدين، وسيرته في الإفادة منهم على اختلاف منابتهم وخبراتهم، أو تباين مواقفهم القديمة منه، أو علاقاتهم المتينة مع المنافسين الكبار له، لجديرة بدراسة علمية موضوعية يستبين منها منهج رجل الدولة في انتقاء الرجال واستثمارهم وتناسي ما كان كيفما كان.
** **
- أحمد بن عبد المحسن العسَّاف
@ahmalassaf