تحت عنوان (البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر الجرجاني) كتب طه حسين مقالاً لمؤتمر جماعة المستشرقين الثامن عشر المنعقد في لندن في سبتمبر عام 1931م.
كما نقل الأستاذ عبد الحميد العبادي المقال ووضعه في مقدمة تحقيقه لكتاب نقد النثر لقدامة بن جعفر (ت.337هـ) المطبوع سنة 1933م.
وظهر بعد ذلك من خلال البحث أن الكتاب قد نُسب خطًا لقُدَامَة، والصواب أنه (كتاب البرهان في وجوه البيان)، لمؤلفه أبي الحسين إسحاق بن إبراهيم بن وهب (ت. 335هـ) وكان طه حسين قد شكَّكَ في نسبة الكتاب لقُدَامَة؛ حيث قال: «والمطلع عليها، يرى أنها لا يمكن أن تكون له؛ بل هي في الأغلب لكاتب شيعي ظاهر التَشَيُّع، قد صنَّفَ كتبًا عدّة في الفقه وعلوم الدين...».
تحاول هذه المقالة، الإجابة عن بعض الإشكاليات التي طرحها (طه حسين) من حيث المنهج والموقف من البيان العربي، منذ القرن الأول حتى الخامس الهجري. ولعلَّه من العسير معرفة منهج طه حسين دون الرجوع إلى الأسس الفكرية والمنهجية التي انطلقت منها أطروحاته النقدية والأدبية في جميع مصنفاته، ودون قراءة واعية ومتأنية لذاك النتاج الفكري في مختلف مراحله.
إنّ التعددية المنهجية التي سلكها إضافة إلى إيمانه باستقلال الباحث من حيث الفكر والمنهج في «كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوًا تامًا... وألاّ يتقيد ولا يذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح» جلبت له الكثير من ردود الأفعال، والصدامات، والاتهامات، خاصة في كتابه (في الشعر الجاهلي).
لهذا نجد أنفسنا أمام كاتب يؤمن بالعلم والفلسفة ومناهجها: «أريد أن أقول إني سأسلك في هذا النحو من البحث، مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة، فيما يتناولون من العلم والفلسفة». وهو إضافة إلى ذلك، يحمل تعددية فكرية مدمجة بين تأصيله التراثي القديم، وفكره الأوروبي الطموح (وبخاصة الثقافة والفكر الفرنسيين).
وقد سلك طه حسين في مقاله هذا منهجًا تاريخيًا بتتبعه الزمن المتعاقب في إطار زمني محدد، مظهرًا العلائق بين المصنفات البارزة بالتحليل والاستنتاج والمقارنة؛ فكان على وعي تام بحركة التاريخ. ومن المعروف بأنّ المنهج التاريخي: «يختص بالتوفيق في الأعمال القديمة؛ من حيث ذكرها، وحفظها، وترتيب ظواهرها في سياق التسلسل التاريخي التي يتكون منها حياة الأدباء وإنتاجهم والجمهور والعلاقات بين الكاتب ومستهلك الكتاب، ويقدم التفسيرات حول هذه الأشياء، وعلى مستوى أعمق يحاول شرحها، وحتى إحيائها من خلال المقتطفات، أو يقوم أمام تراكم الوقائع، بإطلاق المعايير، والقواعد التي تحكم بيئة الأدباء وسيرتهم الذاتية».
إلى جانب المنهج التاريخي الذي سلكه في مقاله، نجد المنهج الظني يطل بين الفينة والأخرى، وهو منهج قد صرَّح باعتماده في مقدمة كتابه (في العصر الجاهلي) مما جعلني أذكر هذا المنهج: إن الكاتب كان يطرح الرأي أو الموقف، ثم يعود لكي ينفيه ويجعله محل نظرٍ وبحث، ومن ذلك على سبيل المثال، قوله: «ولكن لا شك في أن الأساس الذي يبنى عليه هذا التمييز محل نظر» وذلك في معرض حديثه عن المجاز العقلي، الذي هو ابتكار خالص لعبد القاهر الجرجاني في كتابه: (أسرار البلاغة).
وفيما يخص موقفه من البيان العربي، فيمكننا تتبعه من خلال حديثه عن أهم المؤلفين وآرائهم، منذ القرن الثاني وحتى القرن الخامس الهجري. وأول مواقفه كانت مع عمرو بن بحر الجاحظ (ت. 255هـ)، الذي نال منه، ورأى أن رأيه عن اللغات ساذج متناقض هازل مدفوع بحماسته وشغفه للعربية، وأنّ ما قرره نوع من المجازفة نتيجة تعصبه للعرب. وهو في كل ذلك لا ينكر أن الجاحظ رجل البيان ومؤسسه، لكنه كان شديد الجهل بآداب الأعاجم «ومن حماسة متقدة صادقة في الانتصار للعرب على خصومهم من الأعاجم تؤدي به إلى التناقض أحيانًا». أما أوجه التناقض الذي يرى أن الجاحظ وقع فيها فتتلخص في الآتي:
1ـ عرض الجاحظ في الجزء الأول من كتابه البيان والتبيين، لتصور الأعاجم عن البلاغة، «خبرني أبو الزبير كاتب محمد بن حسان، وحدثني محمد بن أبان ـ ولا أدري كاتب من كان ـ قالا: قيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل. وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام. وقيل للرومي: ما البلاغة؟ قال: حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة يوم الإطالة. وقيل للهندي: ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة».
2ـ في معرض حديثه عن معمر أبي الأشعث، الذي سأل بهلة الهندي «أيام اجتلب يحيى بن خالد أطباء الهند... ما البلاغة عند أهل الهند؟ قال بهلة: عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة لا أحسن ترجمتها لك، ولم أعالج هذه الصناعة؛ فأثق من نفسي بالقيام بخصائصها وتلخيص لطائف معانيها. قال أبو الأشعث: فلقيت بتلك الصحيفة التراجمة...».
3ـ رأى أن تصوُّر الجاحظ عن آداب الأعاجم غامض وغير دقيق، وأنّ مَبلغ علمه في هذا الجانب، لا يتجاوز الشذرات والإرشادات، لا القواعد والكتب.
4ـ أن الجاحظ لم يطلع على (كتاب الخطابة) لأرسطو (ت. 322 ق.م)، وأنّه لم يذكر له سوى تعريف واحد، وهو (الإنسان حي ناطق).
وقد ذيَّل موقفه من الجاحظ، بقراءة فاحصة لكتاب البيان والتبيين؛ حيث رأى: إن «العرب لم يخطئوا حين عدّوا الجاحظ مؤسس البيان العربي»؛ والسبب الرئيس من وجهة نظره أن الجاحظ أجمل لنا نشأة وتأريخ علم البيان، كما قدم تفسيرًا دقيقًا لكيفية تصور العرب له، في القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري.
وخلص من خلال قراءته لكتاب البيان والتبيين، إلى ثلاث نتائج، وهي:
1ـ أن العرب في العصر الجاهلي وأوائل القرن الأول الهجري، أخضعوا مقاييس صناعة الكلام لسلامة الذوق، واستطاعوا من خلال هذا المقياس، تقديم النصح والإرشاد لكل شاعر وخطيب، وعضد هذه النتيجة بكمٍ حافلٍ من الاقتباسات الشعرية والنثرية.
2ـ اهتم العرب في القرن الثاني بصناعة الكلام، وتقنين سمات الخطيب، وكل من يتصدر للكلام والإفهام. ولعل مما دفعهم لذلك الصراع السياسي بين الكوفيين والبصريين، وازدهار الحركة الفكرية في ذلك العهد. وعضد نتيجته أيضًا بكل ما وقعت عليه يده من الاقتباسات.
3ـ وفي القرن ذاته، ظهرت طبقة الكتاب من عمال الديوان، وكان أغلبهم من الأعاجم (السريان والقبط والفرس وأهل الجزيرة) هؤلاء الكتاب، أدخلوا في اللغة العربية أساليب وطرائق جديدة في القول والكتابة لم يعرفها العرب قبل ذلك؛ وذلك بسبب ثقافتهم الأولى قبل العربية. وقد أثنى الجاحظ على صنعتهم بقوله: «أما أنا فلم أرَ قومًا قط أمثل طريقة في البلاغة من الكتاب».
معنى ذلك: إن البيان العربي قد تضامن في تكوينه؛ المتكلمون، والساسة، والكتاب العرب، وغيرهم من الأعاجم؛ وإننا لا نكاد نصل إلى منتصف القرن الثالث، ونجد بيانًا عربيًا تام التكوين.
** **
- بدرية بنت علي الحرشان
... ... ...
للتواصل مع (باحثون)
bahithun@gmail.cm