لا يهم أن نعرف اسمه، لا يهم أن نعرفه، المهم أن له قصة غريبة، يرددها في كل مكان يوجد به بعض الرجال، هل نبدأ بسرد قصته، أم نتحدث قليلاً عنه، أعتقد أن الجميع مشتاق لمعرفة قصته التي يكررها لكل من يقابله ولو لم يكن يعرفه.
ذات ليلة، أصابه الأرق، لم يستطع النوم، غادر فراشه بهدوء، كانت زوجته مستغرقة بالنوم بجانبه، خرج من بيته الطيني الصغير في أحد الأحياء الشعبية في وسط المدينة التي يقيم ويعمل بها، وقرر أن يسير على قدميه في الأزقة الصغيرة، مبتعداً عن الأحياء التي تعيش الساعات الأخيرة من الليل، يعرف أن جميع من في الحي نائمون، ربما أغلبهم، ولا يوجد في الأزقة من يمشي، ربما هنالك سيارة شرطة تعبر في جولة لحفظ الأمن في المدينة، ولكنه وحيد في تلك الشوارع والأزقة. ابتعد كثيراً عن الحي ليصل إلى سور كبير لم يره من قبل، سار بجانبه، متّبعاً سهمًا يشير إلى مدخل، بدأ الحماس يشتعل في أعماقه، ليعرف ما بداخل ذلك السور، بعد دقائق مشي، وصل إلى بوابة كبيرة، مفتوحة، لم ير أحد عندها، قرر أن يدخل، قابله في البدء بياض غريب، ما لبث ذلك البياض أن تحول إلى ألوان زاهية، ولكن دون وضوح لأي معالم محددة، شعر قليلاً بالخوف، تعوذ من الشيطان الرجيم، وقرأ ورده، وردد أكثر من مرة المعوذات، واحتار هل يخترق كتلة الأضواء الملونة ويواصل السير ربما يجد شيئاً مذهلاً وممتعاً، أم يعود إلى بيته، هي مغامرة، خرج من البوابة وتأمل السور، لا يوجد مطلقاً ما يوحي بذلك الصخب اللوني من الخارج، عاد ودخل من البوابة مرة أخرى، قابله البياض الذي تحول إلى ألوان زاهية، محيطة به في كل مكان، ليس هناك إلا الأضواء الملونة، وصمت مطبق، أسرع الخطى.. ركض.. واصل عدوه للأمام، اتجه يميناً، اتجه يساراً، لا يوجد إلا تلك الألوان الزاهية، رفع رأسه عالياً ليرى السماء، ربما يشاهد بريق بعض النجوم في ظلمتها السوداء، ربما يشعر بالأمان، لا سماء ولا نجوم، ألوان تحيط به، كأنه في أعماق بحر، لا يعرف السباحة ويخاف أن يختنق، ولكن لا يوجد ما هو مخيف، فقط ألوان زاهية تحيط به، ولا يستطيع أن يعرف مصدرها، هل هذا «قوس قزح»، ولكن كيف يتكون القوس وهم في مدينتهم تلك لا يتذكرون آخر مرة هطل فيها المطر، حيث كانت قبل أشهر طويلة، لا ليس قوس قزح، ثم ألا يقولون إن قزح هو الشيطان، هذا ما سمعه من بعض الناس، هل هم جن، لم يفكر بذلك إلا في تلك اللحظة، فبدأ يشعر بالخوف، الألوان تطوقه من كل جانب، ولا يوجد سواد بينها، بل ألوان زاهية، يريد أن يغادر ذلك الصخب اللوني، يريد أن يعود إلى هدوء ألوان الشوارع والبيوت والإضاءات الباهتة، يريد أن يعود إلى بيته حتى لا تفقد عيناه نور الرؤية، يركض في كل اتجاه يتجإلى الخلف، يفقد الاتجاهات، ليس أمامه إلا أن يركض باتجاه محدد يتخيل إنه الطريق إلى البوابة، يركض، ويشعر بالتعب، لا يوجد نهاية للطريق الذي يسلكه، يعلم أنه يسير على أرض ترابية، ولكن أيضاً التراب يشع بألوان زاهية، يتوقف، يشعر باليأس، لا مجال للوصول للمخرج، يقرر أن يستلقي على التراب، يغمض عينيه، ويستسلم لقضاء الله، لتغمره الألوان، حتماً بعد ساعات ستشرق الشمس وتختفي، ويعرف أين هو، ولكنه مصاب بالأرق، ولا يستطيع النوم، لابد أن يغمض عينيه وإن لم ينم، قرار صعب، ربما يكون معرض للموت من الزواحف أو الحيوانات، أو قد يكون مكان نومه طريقاً للسيارات فتدوسه سيارة، لا توجد أي علامة توضح مكانه، ألوان تحيط به في كل مكان وأرض ترابية فقدت لونها لتشعّ بألوان زاهية، ألوان فقط ألوان، فكر كيف تكون هذه الألوان شفافة، مجرد ضوء يحتوي الهواء الذي يحيط به، كان يفكر بعمق وهو مستلقٍ على الأرض ومغمضًا عينيه، بالطبع هو أبسط من أن يفكر بعمق، أبسط من أن يحلل أي ظاهرة غريبة، أبسط من أن يكون أسطورة، لذا فقد أيقظه مجموعة من الرجال عندما وجدوه نائماً عند عتبة باب بيته، هو يصر على أنه ذهب إلى غابة الألوان، ويحكي قصته لكل من يقابله، قال له أحدهم تصلح أن تكون كاتب قصص أطفال، ورفض ذلك، حاول أكثر من مرة أن يكرر خروجه من بيته آخر الليل، ربما يعود لغابة الألوان، لم يجد السور ولا الألوان، وجد السواد يحيط به، وسخرية الناس من رجل أصيب بالخرف يجوب الأزقة ليلاً باحثاً عن لون زاهٍ، في عالم يعمه السواد.
** **
- عبد العزيز الصقعبي
asals2000@hotmail.com