حسن اليمني
في الحب والعشق ليس أشد على الإنسان من الصراع الصاخب الذي يستعر بين العقل والقلب في إدارة المشاعر والأحاسيس بمعية الشوق والمعاناة.
العقل دوماً خصم والقلب صديق وتبقى النفس والروح حائرة بين المنطق والخيال، بين الرغبة والمستطاع، بين الصواب والخطأ، بين وبين في المسافة بين اثنين لا يبين بيان ولا يستبين مصير، صراع يتأجج داخل النفس بين محافظة وتمرد كسلاحين في يدي فارسين داخل كتيبة واحدة في جيش من المشاعر والعواطف الملتهبة بالنار والثلج.
برغم أنه لا يوجد على الأرض قلب بشري لم يخفق بالحب وتشظّى به الرغبة إلا إنه في مجتمعنا العربي خاصة لا زال خجولاً لا يتجرأ على كشف غطاء وجهه، وقد يعيش في القلب حيناً من الدهر حتى يذوى ويموت دون أن تتجرأ أناته وآهاته على الصراخ، وإن صاح التأريخ في وعينا بالسيد قيس بن الملوح وأخيه قيس بن ذريح إلا أن ليلى ولبنى مضين في حياتهن بعد أن وئدن قلوبهن في كهوف العقل إرغاماً ربما لا اختياراً, ولا أعجب من أن تترنح القلوب وتتمايل الرقاب إعجاباً ببيان العاشق في وصف غرامه وهيامه ثم ذات القلوب وذات الرقاب تتحول إلى شزر مزر حين تصدح أنثى بالعشق.
والحب مثل الكره فطرة في النفس البشرية وكلاهما يبدأ بقبول أو رفض بإعجاب أو نفور لكنهما لا يلامسان القلب كرهاً أو حباً وإنما «تلفظه» النفس للقلب والعقل للتمحيص والدراسة.. فإذا ما اتفقا تمثلت ملامح الوجه صورة حال النفس وانصاغ اللسان للطف الكلام أو جفافه، أما العلاقة بين الجنسين في التجاذب والانسجام والرغبة فيسمى هوى، أيّ أن يهوى قلبك ما استثار غرائزك واشتهته نفسك، فتتحد النفس والقلب ضد العقل كأنهم خصوم في قضية، إن تغلب العقل خمد الهوى وتوجع القلب وتكدرت النفس.. فالعقل أصم وأعمى كأنه تمثال الحرية في نيويورك.. لا يميز بين خد الورد ودم الكبد فهو ينشغل بتحديد اسم المرئي الذي صدرته له العين ولا يهتم بأثر أو تأثير إلا حين تسرع خفقات القلب نحو جيناته فتربك عمله لبرهة وقد تعطل عمله أو يستدعي المترسبات من جينة أخرى أسفل الجمجمة لتمتزج بخفقات القلب وتوهنها حتى تعود إدراجها في رتمها الأول.
يبدأ الهوى ميل من القلب والنفس تجاه شخص آخر لتبدأ الصبوة في استخدام العقل لجذب هذا الشخص الآخر بما يسمى الغزل وإن لقي غزل مقابل انتقلت مرحلة الغزل إلى الشغف في القلب لتأخذ حيزاً منه وتبدأ حالة الوجد التي تسطو على بعض خلايا المخ لتطبع صورة وملامح المحبوب حتى يبقى في حضور مستمر في العقل.. وما هي إلا فترة حتى تصل مرحلة الكَلَف التي تتعمق فيها حالة الشغف والوجد للمحبوب بقوة تضعف دفاعات العقل عن حالات الاستدراك فتتثبت المحبة في القلب بعمق تجعله عشق للنفس وحاكم لغرائزها بالرغبة والاشتهاء، بيد أن العلاقة العاطفية لا تسير في الغالب كما تشتهي القلوب، فإن حدث فراق ضجت النفس وتقلب القلب بحالة النجوى ليشتعل الشوق الذي يحول كريات الدم إلى شظايا من نار تجري في عروق وشرايين الجسد حتى تصل به مرحلة الوَصب لتطرحه بلا قوة، أو ربما خُذِلَ العاشق فدخل مرحلة الاستكانة والخضوع فيبقى حب من طرف واحد عجز عن جذب الآخر ولا استطاع أن يشفى منه، ويبقى الود مرحلة توازن لا وجد ولا شوق فيه ولكن طمأنينة في النفس وهي تظهر بين الأزواج حين تهدأ لوعة الحب والوجد باللقاء والاستقرار والمعاشرة، وقد يصل الهوى بالإنسان إلى حد الهيام وهو الغرق تماماً في الآخر ولا بعده إلا الجنون.
في الحب تجد النفس في هواها مع القلب وليس العقل فالعقل خصيم الحب والعاطفة مثلما هو خصيم الغضب والحماقة، ولا يمكن للنفس استدعاء العقل في تقييم عاطفة إلا حين يزول الهوى والشغف لتستخدم منطقة وخبرته في إطفاء لوعة القلب وتفريغه من شوائب وبقايا آثار الآخر.