د. عبدالحق عزوزي
للكاتب مايكل كريبون كتاب قيم سماه «الأمن أولاً قبل الندم... مفارقات التعايش مع القنبلة»، ويتناول هذا الكتاب جملة من القضايا التي تصب كلها في: تعزيز اتفاقية منع الانتشار النووي، ومستقبل القوى النووية الحالية وتلك القادمة، ومخاطر استحواذ جماعات أو تنظيمات متطرفة على الأسلحة النووية. وفي خطوة منهجية يحدد ثلاثة عصور نووية: الأول ينتهي بتفكك الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة، والثاني ينتهي بتفجيرات برجي التجارة في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001، والثالث ما يزال مستمراً. وينطلق من أن معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية قد صممت أصلاً لتتلاءم وحقبة مبكرة، سبقت انفراد قوة عسكرية واحدة بالسيطرة، وظهور شبكات سرية للتجارة النووية، وخلايا إرهابية تسعى للحصول على أسلحة نووية ومواد انشطارية. ومن الواضح أن هذه المعاهدة كانت تستند إلى أسس أقوى بكثير في عالم ثنائي الأقطاب، حين كانت القوى العظمى تمسك جميعاً بزمام السيطرة متى ما اتفقت فيما بينها على أمر ما.
ويمكن في هذا الصدد تشبيه النظام العالمي لمنع الانتشار النووي الذي استغرق إنشاؤه عقودًا كثيرة من الزمن، بمشروع لتشييد مبنى؛ ولا شك في أن أسس مبنى كهذا، تستمد قوتها من قوة التصميم المشترك للدول المالكة للأسلحة النووية، وللأعضاء الدائمين في مجلس الأمن أيضًا، وتتحمل الولايات المتحدة الأمريكية - حسب رأي مايكل كريبون - بصفتها القوة العظمى في العالم، المسؤولية العظمى كذلك، إزاء ما يتعلق بصون هذا المبنى والمحافظة عليه، ولو أنها تخلت عن هذه المهمة، لما عاد موقع البناء آمنًا. وحتى لو أن واشنطن أدت مهمتها هذه على أفضل وجه، فسيظل لزامًا على كل من روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا، تقديم الدعم لهذا المشروع ومساندته؛ ومتى ما حرص أعضاء مجلس الأمن الدائمون الخمسة على توحيد جهودهم وضمان انسجامها في وجه مخاطر الانتشار النووي، فسيغدو هذا المبنى ملاذًا يعول عليه. أما إن هم أعطوا مصالحهم الأمنية والتجارية الوطنية الأسبقية، على هموم الانتشار النووي ومخاوفه، فسيصبح المبنى آيلاً إلى السقوط.
ويمكن أيضًا، تشبيه ما يعرف بـ»الجدران الحاملة»؛ أي التي حملت أكبر الأثقال، بالاتفاقيات والمبادئ والمعايير التي صممت بالشكل الذي يحول دون انتشار الأسلحة النووية. وفي هذا السياق، فإن المعاهدات التي فرضت تعهدات ملزمة قانونًا، تمثل هنا، الروافد والعوارض الفولاذية التي تُبقي هذا المبنى منتصبًا. ولعل المبادئ الأهم، هي تلك التي حددتها معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وهي التي تم التفاوض بشأنها عام 1968، وأبرمت وقتئذ تأسيسًا على تفاهمين محوريين اثنين: تعهد الدول المالكة للقنبلة بالتخلي عنها، وتعهد الدول غير المالكة لها بمواصلة الامتناع عن امتلاكها. وفي بادئ الأمر، لم يزد عدد الدول التي وقعت على المعاهدة على 43 دولة؛ ولكنه ظل يتزايد ببطء. وفي عام 1992، انضمت إليها اثنان من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن؛ هما: الصين وفرنسا. وتعد هذه المعاهدة اليوم، أكثر المعاهدات شمولاً لدول العالم، بعد أن دخلت كل الدول أطرافًا فيها، باستثناء إسرائيل والهند وباكستان.
ويزداد هذا المبنى اتساعًا، بإضافة «نزلاء» جدد، فضلاً عن قيود تصديرية، ومعاهدات جديدة، وقواعد وضوابط إدارية، صيغت جميعًا؛ لمنع الانتشار النووي. ويتخذ القائمون على إدارة المبنى من فيينا مقرًا لهم؛ حيث أسست الوكالة الدولية للطاقة الذرية...
وقد يصاغ تناقض آخر للتعامل والهواجس الشائعة على نطاق واسع، بشأن الإرهاب النووي في العصر النووي الثاني. وفي الإمكان تصور عدد لا حصر له من الأعمال الإرهابية النووية، ولكن ذلك لم يحدث بعد. ولعل إحدى وسائل الحماية منه - حتى الآن - أن أخطر هذه الأعمال يتطلب توفيرًا كبيرًا للإمكانات والقدرات؛ فإنتاج سلاح نووي واحد - بافتراض عدم شراء قنبلة سليمة صالحة للاستخدام من السوق السوداء - يتطلب تعاونًا واسعًا ودقيقًا بين أطراف كثيرين، وتوافر مجموعة من المهارات والعلوم المتنوعة والاستثنائية، ثم إن الخلايا الإرهابية تعمل تقليديًا، بشكل منعزل لتكون أقل عرضة للمراقبة والافتضاح؛ وإذا كشف أمرها أو تم اختراقها، فهي لن تفضح أمر غيرها من الخلايا الإرهابية. ومع أن هذه الممارسات، تجعل من الصعب على الوكالات الاستخبارية وأجهزة فرض القانون، كشف ما يحاك من خطط سرية، فإنها - أيضًا- تضاعف على الجماعات المتشددة مصاعب بناء قنابل نووية.