د.محمد بن عبدالرحمن البشر
قصص محاكم التفتيش القائمة في الأندلس وغيرها من بلدان العالم في القرن السادس عشر، وما بعده، متعددة، وفيها من الغرائب الشيء الكثير..
من تلك القصص ما حدث في إحدى المقاطعات الأندلسية للمورسكيين، وهم المسلمون الذين أُجبروا على التنصر؛ إذ وصل محققو التفتيش إلى إحدى البلدان في عام 1575م تنفيذًا لمرسوم الإيمان الذي أصدره الملك، الذي يحث المورسكيين على الإبلاغ أو الاعتراف طوعًا عن أية مخالفة أو انحراف عن الإيمان الصحيح والحقيقي بالكاثوليكية، وعدم ممارسة الإسلام سرًّا، أو ما يتعلق به من مظاهر، مثل الوضوء، والاغتسال، والطهارة بعد الحدثَيْن الأكبر والأصغر، وغسل الأعضاء الحساسة أو المخزية كما يسمونها، واحتشام المرأة، وأيضًا ما يتعلق ببعض العادات التي يظنون أنها جزء من تعاليم الإسلام، مثل اللباس، والأكل على الأرض.
لم يتقدم أحدٌ بالاعتراف على نفسه، أو على غيره؛ فأمرت المحكمة أحد وجهاء المورسكيين، واسمه السيد/ أنطونيو موراغا، باستخدام وجاهته ونفوذه بينهم حتى يعترفوا على أنفسهم، أو على غيرهم، وإلا فإن السيد/ موراغا سوف يُقتل أو يغرَّب!
بعد مرور عام عادت لجنة محكمة التفتيش لترى ماذا صنع السيد/ موراغا الوجيه، فتقدمت زوجة أحد صانعي السلال، وهي في التاسعة والعشرين من العمر، واسمها السيدة/ باديا، إلى المحكمة، واعترفت بأنها تصوم، وتؤدي الصلوات الخمس. ولأن السيدة/ باديا قد اعترفت طوعًا بممارسة شعائر الإسلام سرًّا فقد اتفقت معها المحكمة على الاكتفاء بالتوبة الصادقة، وترك ممارسة الشعائر الإسلامية، على أن تخضع لتدريب وخلوة روحية لترسيخ الكاثوليكية في قلبها، غير أن هذا الاعتراف قد جعل محكمة التفتيش تؤكد لمن فوقها أن ما تسميه «عش الزنادقة» في البلدة يحتاج إلى مزيد من العمل!
في عام 1581م عاد أعضاء محكمة التفتيش إلى البلدة، وفي هذه المرة كان المستهدف السيد/ أنطونيو موراغا؛ لأنه لم يستطع أن يجبر أحدًا على الاعتراف، ولم يتهم أحدًا من بني جلدته ظلمًا؛ ولهذا فقد لفقوا له تهمة بقولهم إنه أقام حفلة مصارعة للثيران احتفاء بمقتل الملك الإسباني سابستيان في المغرب في معركة ذات المخازن، أو الملوك الثلاثة، كما اتهموه أيضًا بتحريض المورسكيين على عدم الأعشار للكنسية المفروضة عليهم، كما أنهم اتهموه بأنه كان ينادي أطفاله بالأندلسيين الصغار.. ويلاحَظ أنها تهم لا تستحق النظر إليها. ويعتقد الكثير أن مصدر هذه التهم الزائفة هو كاهن محلي، يسمى السيد/ دي ألمانثا، وقد شغل منصبه عام 1578م. وكان السيد/ ألمانثا شخصية غريبة متناقضة في السلوك مع المنصب الذي يتقلده، ومع هذا فإن له حماية خاصة.
كان السيد/ ألمانثا - مع كونه كاهنًا - سكيرًا قمارًا، زير نساء، عاشقًا لهن، مُكثر من التحرش بهن، وخصوصًا المورسكيات، المتزوجات والعازبات، ومحبًّا لممارسة الجنس معهن، ويقال إنه يرى في المورسكية العربية طراوة، وأنهن متميزات بالإسعاد عند الممارسة؛ لهذا لم يكن يتورع عن التسلق على سطوح البيوت للوصول إلى غايته الدنيئة عنوة.
كانت السيدة/ باديا المذكورة آنافًا ممن يشتهيهن الكاهن العاهر، المسكوت عنه. وبعد وفاة زوجها عاشت مع ابنتها الصغيرة/ ليونور عند السيد/ أنطونيو موراغا؛ ربما لحاجتها إلى توفير قوت يومها. ومع أنه كبير في العمر إلا أنها عشقته، وأخلصت حبها له. ويبدو أن الكاهن قد لفق التهم للسيد/ أنطونيو موراغا ليخلو له الجو. وكانت تتسلل بمساعدة بعض المتعاونين إلى عشيقها العجوز في معتقله؛ لتعطيه قميصًا نظيفًا. واكتُشف أمرها؛ وتم القبض عليها، ظانين إعطاءها إياه القميص النظيف من شعائر الإسلام الذي يحث على النظافة، لكنها نفت أن يكون للقميص دلالة دينية غير أنها اعترفت بأنها تعشقه، وتمارس معه ما يمارسه الزوج مع زوجته!
كان للسيدة/ باديا صديقة وجارة، اسمها السيدة/ سمرونة، تم اعتقالها مع بعض الجيران متهمين إياهن بأداء شعائر الإسلام، وعُذبوا، وقُتل البعض سرًّا. أما السيدة/ باديا فتم اعتقالها، لكن لم يثبت عليها؛ لأن الشهود غير موثوقين، وربما أن للكاهن يدًا في براءتها أملاً في نيل مبتغاه منها، لكنها مع ذلك عوقبت بمئة جلدة، وأُركبت بغلاً، وطيف بها في شوارع البلدة حاسرة حتى خصرها، ثم أُطلق سراحها. وبعد سنتين أُطلق سراح عشيقها السيد/ أنطونيو موراغا؛ إذ لم تكن الأدلة كافية، وبعد ذلك عاد إلى منزله، وانتقلت السيدة/ باديا مع ابنتها إلى منزله، وعاشا كما كان الأمر سابقًا، وكانت الأعين جميعها تراقب سلوكها الديني للتأكد من إخلاصها للكاثوليكية.
لم تنتهِ قصة هذه المجموعة البائسة عند هذا الحد؛ فقد نالهم من الظلم الشيء الكثير. وفي المقال القادم سنذكر ماذا حل بهم.