عبدالوهاب الفايز
أعلنت روسيا مؤخرًا إطلاق موسوعة خاصة بها على غرار (ويكيبيديا)؛ لتحل محل الأخيرة، وتكون الدولة مسؤولة عن إدارتها بنفسها (للإشراف على منع وصول المعلومات المضللة إليها). وهذه الخطوة فُسّرت على أوجه عدة، وبالنسبة لنا يفترض أن نأخذها في الإطار الإيجابي الذي يرى أن المؤسسات الرسمية يقع عليها الحد الأدنى من المسؤولية عندما يتعلق الأمر بحماية ورعاية المعلومات والحقائق الأساسية التي تعني الدولة والمجتمع، وبخاصة في الحقبة التي انفتحت وتنوعت فيها مصادر المعلومات.
إننا في حقبة مكَّنت بسطاء التعليم والاطلاع من الوصول للمعلومات دون المعرفة بالمصادر الاعتبارية والمعتمدة؛ وذلك للأفكار وللمعلومات الكثيرة المتدفقة التي يتلقونها عبر المنصات الرقمية، وبخاصة الجوال. وهذا أدى إلى تطور وتوسع حالة الكذب، وتزييف الوعي. وروسيا يبدو أنها تستعد لحرب الجيل الخامس، حرب المعلومات والأفكار؛ لذا تعمل على ترتيب قطاع المعلومات بعد أن رتبت قطاع الإعلام عبر إنشاء منظومة (روسيا اليوم) التي تتواصل مع العالم بلغات عدة، وتقوم بدور الدبلوماسية الناعمة، وتسعى لتسويق الفكر والفنون والمصالح السياسية الروسية.. ونجحت في هذا المشروع الذي يقدم نموذجًا لـ(الإنفاق الذكي على الإعلام) الذي يخدم المصالح العليا للدولة، لا مصالح الأفراد!
في عام 2009 زرت مدينة مالمو جنوب السويد، ووجدتها فرصة لزيارة مقر الموسوعة الوطنية السويدية، وهي الموسوعة التي أسهمت الحكومة السويدية بإنشائها ودعمها عام 1980م مع مجموعة من الناشرين. وهناك أمضينا ساعات عدة، نستكشف هذا المشروع الذي يعمل به مئات الأشخاص في مبنى ضخم مدعوم بكل الإمكانات الرقمية والبحثية. يومها أدركت أهمية دخول الحكومة بقوة لإنشاء مثل هذا المصدر للمعلومات الوطنية. وقبل عشر سنوات تمنيتُ رؤية مثل المشروع في بلادي؛ فحينئذ كانت ملامح الثورة المعرفية والرقمية تلوح في الأفق، والاقتصاد القائم على صناعة المعرفة يقدم منتجاته. وها نحن نبث التمني من جديد!
الآن روسيا، ومن ثم السويد، ومن قبل بريطانيا العظمى، مبادراتها تقدم النموذج الذي يوضح أهمية دخول الحكومة لقيادة وتوجيه المشاريع الوطنية؛ حتى تكون مشاريع حقيقية متعدية الأثر، تتطور وتتعاظم منفعتها لتخدم المصالح العليا. عالَم الموسوعات والكتب الموسوعة ضخم، وهو تقريبًا مصدر الباحثين والدارسين. والموسوعات كان لها دور في نشر المعرفة. والموسوعة البريطانية تعتبر الأشهر. وشبكة BBC والمعاهد الثقافية البريطانية تعد من أهم أدوات الدبلوماسية الناعمة التي خدمت الإمبراطورية التي غابت شموسها. وقد أعادت الحكومة البريطانية في العصر الرقمي الأهمية للموسوعة؛ إذ حولتها إلى موسوعة رقمية، تحدّث وتطوّر خدماتها كل يوم. لدينا في السعودية اهتمام كبير بأهمية الموسوعات، وتم دعم وتمويل العديد من المشاريع، من الحكومة ومن الأفراد. وهذا الاهتمام المبكر أوجد العديد من الموسوعات التي بذل فيها أصحابها والقائمون عليها مالاً وفيرًا وجهدًا كبيرًا.. ومساعيهم هذه سوف تضيع، وتبقى حبيسة المجلدات، ويعلوها الغبار في الأرفف. وهذا الوضع يجعلنا نخسر محتواها المعرفي؛ لأن القائمين عليها ومُلاكها مكلّف عليهم تحديثها وتطويرها، وتحويلها للبيئة الرقمية الذكية المعاصرة التي توفر سهولة الوصول والاسترجاع والتداول.. وأيضًا نخسر فرصة تحويلها إلى مصدر حيوي للاستثمار في المحتوى.
الاستثمار في صناعة المحتوى في الحقبة الرقمية أصبح مجال الاستقطاب الأول لرؤوس الأموال، والنماذج التجارية لشركات الاتصالات والتجارة الرقمية الكبرى، مثل الأمازون، بعد امتلاكها قواعد المعلومات الضخمة، أصبحت تتسابق للاستثمار في المحتوى وفي الإعلان والتسويق. هذه توفر عناصر النجاح المكملة.. أما القيمة الأساسية فهي في بيع المحتوى على مختلف المنصات الرقمية المتاحة في أيدي الناس/ المستهلكين الذين يرتبطون نفسيًّا وفكريًّا بهذه المنتجات، ويقدمون القاعدة الاستهلاكية المناسبة لمن يريد أن يستثمر.
نتمنى جمع كل الموسوعات التي لدينا في مشروع وطني واحد؛ ليشكل نواة لمشروع محتوى سعودي ضخم وحيوي، سياسيًّا وثقافيًّا.
مَن يلمُّ شتات هذه الموسوعات؟ إنها الأماني تتواصل وتتجدد!