د.فوزية أبو خالد
(1)
أبدِّدُ وقتاً لا يُعد عن عمد من بعد صلاة الفجر إلى ما بعد صلاة الوتر منتصف الليل يومياً في اللعب مع الماء.
كنتُ ألعب مع الماء بمرح، لا أبالي بالتباريح كأي طفلة غرة لم تلدغ طراوة أصابعها بعد عقارب الوقت.... ولم تغلق معابر قلبها المتفتح للتو خشية الخيبات.. ولا تعنيها من قريب أو بعيد عقدة العمر ورهاب السنوات.
فكنت أكتب وأمحو مرة بالحبر ومرة بالرمل، مرة بالموج وأعشاب البحر، ومرة بمراود الحلم ونوافير السراب، ومرة بمفاتيح الكمبيوتر وأزرة الجوال. لم أكن أستطيع أن أذهب لاحتفاء شباب المنطقة الشرقية بتجربتي الشعرية متلبسة باليابسة متسترة على ما بين الماء وبيني من أسرار. فلن يكون ذلك إلا خيانة لما بقصائدي من ماء عيون الأحساء وماء الخليج وماء الأمل الذي كان ولا يزال الحبل السري الذي يربط ما بين عشقي الوطني وما بين طيشي الشعري.
إلا أنه لم يكن لي أن أكتفي بالكتابة والمحو، بل إنني إمعاناً في لعبة الماء كنت أغط رأسي إلى ما تحت عظمة ترقوّتي في القراءة عبر كل أوعية الماء الورقية والإلكترونية البصرية والمسموعة والملموسة المباحة والمسروقة والتي لم يجف ماء كتابتها بعد على مدار الساعة.. للتكشف على ما لم أعلمه بعد من خباياها.
ولكم إن شئتم أن تشاركوني الخيال, فمع مطلع كل نهار جديد كان يجتاحني مطر غزير مصحوب بشمس تسفر بخفر عذري وبروق مختالة ونخيل باسقة وعرائش أعناب ومدات ياسمين ورعد مجلجل. فلا أستطيع إلا أن أكون مكان جدتي «ماوية في جودها». أسارع وأدعو المخلوقات العطشى من عرفج متجعد وريحان ليس له رائحة وأحصنة ملوية الأعناق، وحباري مهيضة الجناح وقنافذ انعقفت أشواكها وغدران مغدورة وينابيع جائعة ومفازات مهجورة ونوافذ مغلقة وفساتين مطفأة ومنحوتات متصلبة المفاصل وخواتم خطبة مشغولة بالدمع وكتب يعلوها الغبار، ورغائب جففها الشظف وموسيقى اخترق الرصاص الحي أحشاءها.. وأشركها جميعاً معي في لعبة الماء. وما تلبث أن تنضم إلى مائدة الماء عجلات نائمة وعيادات مكتظة بالمرضى، وطرقات تتنهد الوحدة وفضة يعلوها الصدأ، ومواقد مترمدة وطوابير عاطلة، وأخرى مسرحة من العمل، وسفن مخروقة تمخر البحر بالفارين من الحرب, وبيوت مائلة على أصحابها وأصحاب ليس لهم صاحب، وأطفال بدون عائل وأرباب ليس لها سوابق وأحلام مرجأة.
فلا يبقى مخلوق من تلك المخلوقات وسواها التي كانت معتمة كقناديل منكسة وكئيبة كآبار مطمورة، إلاّ وتسري في كيانها نار الماء، فتنتشي وتطلق أجراس الضحكات نوافيراً في كل اتجاه.
مع كل دقة من دقات قلبي ساعة مخاض الكتابة كان يهل على صفحة شاشتي الشعب العربي شاباً شاباً وصبية صبية وطفلة طفلاً قصيدة قصيدة وشجرة شجرة وموجة موجة، وتعبر بترابها الطري الوهاج وبمائها الفوار الهتان أوردتي ومسارب روحي. كان ذلك الشعب الأغبر الأشعث في المنافي الفارهة في الأوطان المطبقة في شتات الجسد والرأي في مشاتل ومصانع الأمل المتخيلة، يحمل عارضة طويلة مكونة من عدد بسيط من الكلمات على هيئة تغريدة تقول : «عزة ظمأ ولا مذلة سحابة».
أمد يدي إلى دمي وبندى الحبر أكتب أن حب الوطن وحده لو أطلقنا نوافير العشق على الجراح وسرحنا عصافير الحرية من أقفاص الصدور، هو ما قد يشدنا بالبصيرة لتحدي أتون هذه المرحلة العربية الحارقة. فكما أن شرارة صغيرة قد تشب حريقاً كبيراً فإن قطرة ماء نقية قد تشفي غليلاً غامضاً.
* * *
2))
قطرة نقية في كتاب الكون
شمس علي... شمس علي... شمس علي...
صحفية من المنطقة الشرقية
بنت من خضرة النخل وحمرة الحناء
صبية من تعطش الصحراء للماء
سيدة من عيون الأحساء
شمس علي
كاتبة من سلالة عشاق المعرفة ومحبي العلم والشغوفين بالشعر والنثر والمنذورين للبحث عن الحق والعدل والحرية والمساواة والجمال وكل القيم السامقة النبيلة الرقيقة القوية التي تصنع الفارق النوعي بين الإنسان والجماد وبين الظلمة والنهار وبين مثقف حي حر وبين مثقف يتصنَّع الحياة.
شمس كتبت مقالات وتحقيقات صحفية تُعنى بالأدب والثقافة في جريدة اليوم، وكتبت في جريدة الحياة وكتبت في صحف سعودية أخرى، كانت تتصل بي وتطرح أسئلة صعبة لقضايا معرفية متعددة، وحضرت أمسيتي الشعرية بالنادي الأدبي بالدمام وعرَّفتني بنفسها، فالتقيتُ ببنت خجولة تقطر حياء فاعترتني الدهشة كيف تجمع تلك المرأة في إيهاب واحد بين صبية تتحرك وتتحدث على استحياء وبين صحفية بهدوء تعبر عن شجاعة الكلمة والجرأة في الحق.
الموجع أنه بعد سنوات من انشغالي ببعض الأوجاع عدتُ أبحث عن الزميلة شمس علي لأجد أنها انسلَّت لرحاب ربها من مدة ليست بالقصيرة دون أن أعلم وقتها.
يااااا الله جلِّل بأجنحة رحمتك شمس علي، واجعلها في مكان عزيز بجوارك العظيم.
ياالله ارحمنا من وحشة الغفلة.
نكأ رحيل الشابة والناشطة التونسية المفاجئ لينا بن مهنى وقد كانت راية من العنفوان في العمل المدني وحب الوطن جرحي المستتر لوفاة شمس المفاجئ في مقتبل العمر قبل سنوات، وقد كانت ريحانة حيية لما يسمى القوة الناعمة التي لا تعرف أنها قوة ولا تريد أن تكون أكثر من قطرة حبر نقية صغيرة في كتاب الكون الشاسع.