عبد الله باخشوين
كانت أمي في بعض (الصباحات) تضع في (براد) شاي أبي (الصباحي) الملح بدلاً من السكر..!!
..
يجلس قبالتها خلف (الوجار) مرتدياً (فرهوله) العسكري ليحتسي (فنجالاً) أو أكثر.. قبل الذهاب لـ(القشلة) متجاهلاً ضجيجنا حوله ومتجاهلاً حالتها العصبية وهي (تمشط) شعر أختي قبل ذهابها للمدرسة.
وتردع كثرة طلباتنا الصباحية المعتادة وهو هم كبير لامرأة (فريدة عين) أو (عمية) كما اعتادت أن تصف حالها. كان أبي يكتفي بتذوق كأس الشاي ويحاول مساعدتها بنهرنا من حين لآخر بطريقة يسعى من خلالها أن يجعل أول الصباح يمر على خير.. لأنه كمعظم رجال تلك الأيام يحسم حواره مع أبنائه باليد وليس باللسان.. وهي مشغولة لا تنتبه له إلا وهو يهم بالنهوض.. فتقول مستنكرة: (ماشربت الشاهي).. فيقول باستسلام: (حطيتي ملح بدل السكر).. فتبدي عتابها لنفسها.. حسبي الله ونعم الوكيل.. وتهبد أقربنا إليها أو أختي التي بين يديها.. وتنظر لـ(العلب) المرصوصة بالقرب منها.. فتري أنها جميعاً علب حليب (كيكوز) وضعت فيها كل ما تحتاجه بالقرب من يدها.. السكر.. الملح.. القهوة.. البهار.. الهيل.. البخور، وتميز ما تحوي كل علبة بطريقتها الخاصة.. وسكر وملح تلك الأيام (خشن) وأسمر.. وكما اعتادت تدخل يدها في العلبة و(تخمش) ما تريد.. طبعاً عندما تكون على غير طبيعتها لشدة (حوستها) أو سهرها على مرض أحدنا.. يحدث مثل ذلك الخطأ.. لا يغضب أبي رغم مزاجه العصبي صباحاً.
عندما كبرت فهمت سر ذلك (الخطأ) الذي يكرر.. فهي بعين واحدة ترى جيداً في الأحوال الطبيعية.. الأمر حاسة (اللمس) لديها شبه خرساء.. وليست مدربة على معرفة الأشياء باللمس كالعميان فيحدث الخطأ من قلة التركيز والانتباه.
قبل أكثر من عشر سنوات.. تذكرت أحداث فيلم (أوروبي) شاهدته قبلها بأكثر من عشر سنوات -أيضاً- تدور أحداثه حول أحد المراهقين.. ارتدى نظارة سوداء تماماً وقرر أن يمضي بقية حياته في حالة عماء رسمها لنفسه لأسباب لم أعد أذكرها.. وخرج للشارع تتبعه كاميرا الزميل الذي تولى مهمة (التصوير).
ولأنه ليس مدرباً على السير والتصرف مثل العميان.. وبالطبع لا يملك حيوية ونشاط حواس السمع واللمس وما وهبهم الله من انتباه حذر.. (وبالمناسبة) روى لنا الفنان المصري (علي الحجار) حادث حصلت في (بروفة) أحد الألحان التي سجلها مع الفنان المرحوم (عمار الشريعي) وهو ضرير كما نعرف وخلال استماع الشريعي لموسيقى اللحن.. طلب من العازفين التوقف وقال لعازفي (الكمان).. لوسمحتوا فيه واحد لابس ساعة بـ(زنجير) يخلعها رجاءً..وبالفعل قام العازف بخلع الساعة التي لم يسمع أحد صوت (شنشنة) زنجيرها سوي عمارا لشريعي.. ويقسم علي الحجار أنه ذات مساء في آخر ليل القاهرة.. ركب مع آخرين سيارة كان يقودها عمار الشريعى وسط هلع الجميع وأكمل المشوار دون حوادث.. وفي حديث تلفزيوني قال ابن عمار الشريعي (أنا مكنتش أعرف أن بابا مش بيشوف.. ومعرفتش إلا متأخر أوي). وفي الفيلم الأوروبي يتعرض الفتي منذ انطلاقته الأولى لحوادث شتى.. وكاد يعرض نفسة للموت لدي عبوره الشارع.. ولأنه -مع المصور- أراد أن يكون العمل واقعياً.. فقد تم التصوير (لايف) دون أيّ تدخل يجعل من يسير في الشارع يدرك.. أن الأمر مجرد فيلم وأن هناك من يسير خلف الفتى متخفياً لتصويره.
المهم قبل أكثر من عشر سنوات تذكرت أمي وعينها الفريدة.. وقررت أن أحاكي الحالة لأعرف -على الأقل أي شيء عن الحالة النفسية والرؤية (البصرية).. ذهبت إلى الصيدلية واشتريت كمامة للعين كالتي يضعها أي إنسان على عينه لحجبها عن النور طبعاً..لم يكن في جدة على ضخامة الميزانيات التي ترصد لها مكان يصلح للسير على الأقدام.
عندما حجبت عيني.. منذ البداية شعرت بنوع من الدوار (دوخة خفيفة) نزلت على أثرها إلى الشارع.. فكان أول ما أربكني وشتت انتباهي وحال دون امتلاك أية قدرة على التركيز هو الخوف من السيارات.
وذلك الدوار الذي قد يعرضني لحادث لا تحمد عقباه.. فقرر الجلوس لمراقبة وضبط حركة الالتفات على جانبي كتفي ورصد كل شيء بـ(عين واحدة).
مضت أكثر من ساعة.. أدركت بعدها أنني في حالة خاصة شديدة التعقيد وليست بالسهولة التي كنت أظن.. ففي الحال الطبيعي.. أنت ترى كل شيء أمامك.. من (الكتف الأيمن للأيسر). أما بعين واحدة فترى النصف تقريباً.. غير أن من يحمل عين واحدة -فعلاً- يرى المشهد كاملاً.
فبعد نظرة شاملة عبر التفاتة -مثلاً- وإعادة الرأس للأمام فأن المشهد يظل كاملاً ذلك أنه يكون قد خزنه في ذاكرته (البصرية) بتلك اللمحة السريعة.. ويستطيع أن يبقيه كاملاً نصف مباشر والنصف الآخر مخزن في ذاكرته بطريقة تمكنه في جزء من الثانية من لصق الجزءين في مشهد واحد مكتمل. إنها المسافة بين (البصر) و(البصيرة) التي لا يدركها (أعمى القلب).
طبعاً هذا الكلام غير دقيق علمياً.. وهناك طريقة أخرى للشرح يملكها أطباء (العيون).. لذلك سوف تجد أفضل شرح لها عند أمثال الدكتور (عادل محمد العلي).. فهو طبيب عيون ومن القلة الذين درسوا الطب في روسيا.. أما أنا فإن حديثي يأتي كنتيجة (تحليلية) للتجربة التي أخضعت نفسي لها.. لفهم بعض أحوال (أمي)..التي جعلتها تري بعين وحيدة.. أبعد مما رأت (مفنجلي) العينين أمثالي.