م. بدر بن ناصر الحمدان
امتداداً للمقال السابق، يمكن القول إن التجمعات العمرانية في بلدة عودة سدير تزامن نموها العمراني مع تعاقب وتغير الأحداث في تلك الحقبة، ويدلل على ذلك وجود الآبار والقنوات المائية وجدران عزل المياه والتي تعبر عن عصر جديد من الازدهار الزراعي الذي ما كان لينشأ إلا في أجواء وظروف معيشية ملائمة نتج عنه تزايد الطلب على الأرض ومن ثم أدى إلى النمو المتصل لهذه التجمعات على محور رئيس متاخم لوادي سدير.
كما يتضح ذلك بدقة من خلال تحليل صور الأقمار الصناعية للموقع، وكما يذكر جان ميترال: «إن توزع الأقاليم ضمن المدينة ليس وظيفياً فقط، فهو يتحدث عن تنظيم الحياة المشتركة للجماعات المختلفة وكيف تُدار قوانين وقواعد العيش معاً»، ومما يدعم ذلك تكوين المسارات والحدود والأحياء ونوع مواد البناء المستخدمة وأسلوب تخطيط المكان والعلاقة المتجانسة بين وظائف المواقع السهلية المنخفضة والمواقع الجبلية المرتفعة المحيطة باعتبار أن هذه التجمعات نشأت كمدن تابعة حول مدينة غيلان التي صمدت آثارها وحيدة وذلك عطفاً على قوة بنائها وموقعها الجغرافي المحصن ضد عوامل التعرية.
إن الكتلة المبنية داخل هذه المدينة والتي تُعرف بقصر غيلان تمثل مساحتها ما يقارب 780 متراً مربعاً تقريباً، وهذا المبنى يُمثّل حصناً عسكرياً وهو مركز الحكم والقيادة والسيطرة للتجمعات العمرانية المحيطة به عطفاً على موقعه المرتفع وزوايا البناء التي دُرست بدقة متناهية لاحتواء الاتجاهات الرئيسة، وبتحليل أسلوب البناء وعناصر الحماية نستنتج أن الأسوار قد بُنيت بطريقة هندسية تحاكي طبوغرافية المكان واستخدمت الحجارة ذات التدرج الحجمي المتسلسل والمتطابق بدعامات من الطين في التجويف الداخلي لهيكل السور بأسلوب تقليدي بحت يُعبّر عن أن فريق العمل الذي قام بالبناء عبارة عن مجموعات (محلية) مختلفة الخبرات التقنية في البناء لكل جزء من الأسوار وباستخدام أدوات حرفية محلية وبطرق مختلفة وأن عملية البناء تمت بأسلوب منظم ولكنه لم يعتمد على عنصري الحجم والمتانة في الإنشاء بل اعتمد على مقاييس إنشائية اعتمدت على عنصري التوازن والتوازي على محاور التحمل، وهذا يؤكد أن مدينة غيلان أنشئت في الأصل لاعتبارات وظائف المكان الدفاعية لمجموعة من ذوي النفوذ والمكانة السياسية لمدة طويلة من الزمن كونها كانت تمثل ثكنة للجيوش وإسطبلات الخيل وتخزين الأسلحة والعتاد لفترات طويلة، ويمثل حفر البئر في منطقة صخرية مرتفعة رغم قرب منطقة أودية منخفضة قريبة دلالة على ظرفية الأحداث التي كانت تمر بها المنطقة خلال تلك الحقبة، ويتضح ذلك أيضاً من تخطيط المواقع الأخرى والخاصة بالمراقبة على ما يُسمى بـ (قارة الزبير) والتي تقع جنوب غرب (مسافر).
وعودة سدير القديمة (الديرة القديمة) والمتاخمة لمدينة غيلان يُرجح أن تكون تجمعاً جديداً نشأ بعد اندثار الحضارات السابقة للمواقع التي تمت الإشارة إليها، حيث إن طبيعة الأسوار الدفاعية (الحوامي) المحيطة بالبلدة اعتمد في بنائها على أسلوب معماري مختلف تماماً من حيث طريقة الإنشاء والمواد الطينية الخالصة ومواقع البوابات ومنافذ المراقبة (الأبراج).
بالإضافة إلى أن تخطيط بلدة عودة سدير أخذ نمط التكوين الدائري حيث تكون الشوارع في شكل حلقات متوازية، وهذا النمط يُعتبر من الأنماط الكلاسيكية التاريخية، ويمثل النمط السائد في مرحلة نشوء المدن الإسلامية التي يمثل المسجد المبني المركزي في وسط المدينة والذي يكون مركز تخطيط محاور النمو التي تنشأ عليها بقية أجزائها، كما أن نمط الشوارع ذات النهايات المغلقة تمثل فلسفة تخطيطية قديمة تكررت في مواقع عدة في أحياء عودة سدير، وهي تمثل تجسيداً للتجانس الاجتماعي للسكان المحليين وسيطرة شبه الملكية على المكان، وبتحليل النمط التخطيطي للبلدة نجد أن ممراتها وأزقتها تشكَّلت في مسارات وخطوط إشعاعية تتباعد كلما ابتعد عن مركز المدينة وتتقاطع مع حلقات دائرية تمثل توزيع الأحياء بمبانيها المتلاصقة ساهم في تشكيل نمطها عدد من المحددات الطبيعة المحيطة.
كذلك وجود المناطق الزراعية المتاخمة حول البلدة يؤكد على أن الزراعة كانت القاعدة الاقتصادية الرئيسة لسكانها المحليين، ويختلف نمط تخطيط عودة سدير (البلدة القديمة) القائمة حالياً، والذي يمثل حيزاً ذا استخدامات أراضٍ متنوعة ومتناسبة مكانياً ووظيفياً عن نمط تخطيط التجمعات الأخرى مثل مسافر وجماز والقرناء وغيلان والتي كان يمثل تخطيط استخدامات الأراضي بها عنصراً وظيفياً مهيمناً على نسب التوزيع المكاني، وهذا ما يبرهن أنها حضارات نمت واندثرت في ظروف زمنية ومكانية مختلفة.