سام الغُباري
لم يشارك الطيران هذه المرة، كان البأس حليف رجال الرجال من المؤمنين بعدالة جمهوريتهم وحاصد أرواح الكهنوت بغضب يماني اندفع من أعمق أعماق التاريخ، مثل مدفع مضيء تجاوز سرعة الضوء واخترق المكان والزمان معًا، مُسددًا ضربة قاضية لوجوه فارسية دخانية التحقت ببعلها «قاسم» الكائن في شارع الجحيم خلف بوابة سقر بجوار منزل خميني.
احترق أحفاد السجناء القدامى، أولئك الذين أخرجهم «كسرى» من زنازن العذاب وأسرجهم خيل ودرّعهم بسيوف من عار ليمنحوا المجد لـ»فارس»، التهمتهم اليمن بجبالها ورجالها، وحقًا إن قيل إن بلادي مقبرة الغزاة، فهي كذلك وأكثر.. وحينما يحاول أهلها التسامح مبتعدين ما أمكنهم عن مواطن القتال وبِرك الدم الآسن، فليس ضعفًا وإنما قدرة باسلة على «الاحتشام»، و»العِفة» من إزهاق أرواح المعتدين.
ولكن.. كأي سُنّة من سُنن الغرور والخيلاء يُصفِق المعتدون الباب في وجه الحوار والتفاوض، يُغلِقون نوافذ الحلول، ويردمون فتحات التهوية والحياة، فتدركهم النهاية أنهم أحالوا إمامة الغزو إلى سجن، قضبانه عالية وأسنته حادة قاتلة، فاتكة قاطعة، فيأتيهم اليمانيون كالفيضان، سيلاً عارمًا، وريحًا صرصراً عاتية، تقتلع أوهامهم، وتعصف بخِرق راياتهم الفارسية -الاصطفائية- إلى حيث لا عودة ولا مكان ولا سبيل للاحتماء من غضب تراكم منذ عشرة قرون، لكأنه إمضاء قاهر في نهاية الجولة البائسة من عُمر الزمان، قرار إعدام جماعي لكل ظالم وخوّان لئيم.
كتائب «الموت الحسيني» تنتهي بالموت دومًا، منذ ألف عام وهي تُباد، فلا يملك ذووها من أمر قتلاهم إلا العويل، الصراخ الملعون على صفحات مدوناتهم لتجميل وجه الغدر والمؤامرة على المُلك العربي، على دِين وضعه الله في أفئدتنا العربية وأجراه بلسان عربي مبين، فلا ينازعنا فيه أحد إلا هُزِم، ومهما حاول أعاجم فارس أن يتأسلموا أو يتعربوا تفضحهم عيونهم، وتشي ملامحهم بلعنة من خارج الحدود المفترضة لرسالة منبعها عربي أصيل.
لم يفقه الفارسيون الذي زوّروا نسبًا عربيًا محترمًا يتصل بآخر الأنبياء المقدسين أن اليمانيين مثل خيول بيضاء جامحة، الخيول التي تصهل وتتقافز في الهواء، أحرار ينفضون غرَّتهم فتحلق في الهواء تعبرها الشمس فتتحول إلى ذهب، ويتمايلون مع الأرض كما لو أنهم يمسحون وجه الأفق بأكفّهم البيضاء، فتبدو النهارات أكثر إشراقًا، فيعدون ويعدون بعيدًا، ويعودون مُغيرين على شيء لا يراه سواهم، وعندما يصلون ينحنون لالتقاطة، لحوار، لتفاهم، ويقفزون ثانية نحو السماء، إلى درجة تشعر أنهم سيظلّون مُحلِّقين في الهواء إلى الأبد.
لم يتنبّه الفارسيون الذين «هوشمتهم» لعنة التزوير الأبدي أن اليمانيين جزء من سديم الأرض المباركة، علامة في مسار العرجون القديم، لا يدركهم سواهم، ولا يفقههم غيرهم، ولا ينتمون لضلالة مهما طال بهم الغياب، فثمة هُدهد يجوب السماء بحثًا عن هدايتهم، وإن استقاموا صاروا أولو قوة وأولو بأس شديد، إنهم قوم تُبَّع، أصالة من أصل، ونخلة شمّاء جذورها غائرة في أخاديد الأرض وسعفها وارف بظلاله على رجال الجنة في أعالي السماء.
وحين لم يفقه أعداؤهم هذا، حصدوا الموت اليماني بسيوف من شهب الشمس، وزُلزِلت أقدامهم وتبدّدت خرافاتهم مثل سراب حسبه الحوثيون ماء، وهناك خلف تلك الأودية، اجتاح اليمانيون سناسل الذرة بحثًا عن عدو فاجر، عن مجاهرين بصرختهم، فلا ترى إلا حناجر تتطاير كأنها ألسنة أفاعٍ مسمومة، فتهمد الصرخات ويُدهَس الوهم ويُحلّق اليماني مجددًا، يصهل في الساحل الغربي فيتردد صداه على تخوم صرواح، ويغطغط في الضالع فيجيبه أهل نهم بالزئير، وطن واحد وأبناء عمومة نزغ الشيطان الفارسي بينهم، وأعادتهم الخيبات المريرة إلى صوابهم، فكان لهم النصر حليفًا، ولم ينل أعداؤهم الهزيمة وحسب، بل بقي العويل لازمًا لهم، ساكنًا في دورهم الفارغة، يتلفتون حولهم بفزع فيُطبِق ممسكًا بهم كظل، لا يفارقهم ولا يفارقونه، ولأجل هذا يخشون الشمس.
(إهداء لأبطال نهم، أقيال الجيش اليمني وملوك الأرض النجباء الأوائل)،،،