د. عيد بن مسعود الجهني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. الحمد لله الذي جعل الموت حقًّا. قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (الرحمن 26 - 27)، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك 2). ولا توجد قسوة أكثر من أن تسمع خبر انتقال مَن تحب إلى جوار ربه؛ إنه خبر مفجع؛ يترك ألمًا وحزنًا، يهز القلب ودقاته، ويؤلمه كثيرًا.
الأمير بندر بن محمد بن عبد الرحمن آل سعود -رحمه الله- الذي اختاره الله -جلّ جلاله- إلى جواره.. سنفتقدك أيها الأمير الصالح التقي.. بقلبك الكبير.. وهذه سُنة الحياة.. انتقل إلى رحمة الله مَن نحبه ونُجلّه ونقدره، وسيموت غيره، وسنموت نحن، وننزل تلك المنازل كما نزلت، ونقف بين يدي الخالق.. وهذه سُنة الله تعالى في خلقه.. وأنا أكتب هذه الكلمات تذكرت قول الشاعرة ملك بنت حفني:
ألا يا موت ويحك لم تراع
تركت الكتب باكية بكاء
ولم يمنعك مما رمت نثره
ولا شعر ولا حسن ابتداع
إن الحديث عن سموه -رحمه الله- لا بد أن يتطرق بإيجاز لمفتاح شخصيته، إنها التقوى والصلاح والصدق والتواضع الجم وحب الخير والكرم.. الخ. وإن معرفة المسلم أهمية التقوى وفضلها تدفعه - ولا شك - إلى سلوك كل سبيل يوصله إلى تقوى الله تبارك وتعالى. وهذه هي سمة الأمير بندر.
إنها وصية الله -عز وجل- للأولين والآخرين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ} (النساء 131).
إنها وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته، كما في حديث العرباض بن سارية: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة» رواه أبو دواد والترمذي.
إنها وصية جميع الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} (الشعراء 105 - 106)، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ} (الشعراء 123 - 124)، وكذلك هي وصية صالح ولوط وشعيب وموسى عليهم أفضل الصلاة والتسليم.
أفضل زاد يتزود به العبد، كما قال تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة 197).
الأمير الفاضل -رحمه الله- اتصف بحسن الخلق؛ فالإسلام اهتم بالأخلاق الحسنة؛ فالله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم 4)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن خياركم أحسنكم أخلاقًا». فالأخلاق الحسنة والقيم الفاضلة لها فضل ومكانة عظيمة في الإسلام، ولا يصح الإيمان بدونها.
هذا الأمير كان من صفاته الصدق.. الصدق الذي يدعو إليه الدين والعقل والمروءة، والأساس الذي يقوم عليه الدين الإسلامي (فلا سيف كالحق ولا عون كالصدق).
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا».
والحلم والصبر والأناة والصفات الطيبة الأخرى اجتمعت في الأمير بندر، وهي من الصفات التي يحبها الله سبحانه وتعالى؛ ويدلنا على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران 200)، ويقول عزَّ وجلَّ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ} (النحل 127).
كما عُرف -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- بالتواضع الجم الذي يعد صفة العبد الطائع الرضيّ؛ يحترم الكبير، ويرحم الصغير، لين الجانب؛ وهو ما جعله قريبًا إلى قلوب الناس، محبوبًا لديهم، يعج بهم مجلسه العامر في العلم والثقافة والتاريخ، يؤمه الكثيرون من رجال العلم والفكر والمثقفين والأدباء والشعراء، وغيرهم.
كما عُرف -رحمه الله- بالحلم والأناة، وهما صفتان يحبهما الله، ويحبهما الناس، فعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» رواه مسلم. ومن كان حليماً متواضعاً فإن هذا من شأن العقلاء وعنوان الحكماء.
ولا شك أن الكتابة عن الأمير بندر الذي اختاره الله -جل جلاله- إلى جواره أمر شاق، وخصوصاً عندما تحاول الكلمات أن تسطّر بعض محاسنه وصدق سريرته وحسن تواضع وكرمه؛ فهذا الأمير احتل ظله مساحات واسعة، ونشر عطاءه نشراً برقعة شاسعة مملوءة بالعطاء الخيّر، ومنها الكرم.
فالكرم والجود من مكارم الأخلاق، ومن أفضل الصفات على الإطلاق، أوصى الله سبحانه وتعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- في القرآن الكريم؛ قال تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (آل عمران 92).
فالإسلام سعى إلى تأكيد مكارم الأخلاق، والدعوة إلى الفضيلة والخير؛ فكان ثناؤه على معاني الجود والسخاء؛ قال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} (سورة الإسراء 29).
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى جواد يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفاسفها» أخرجه أبو نعيم.
وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يجتمع شح وإيمان في قلب عبد أبدًا» أخرجه أحمد في مسنده والنسائي في سننه وهو صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: «شر ما في رجل شح هالع، وجبن خالع» رواه أبو داود.
فالإسلام حرص على أن يكون التدين والتمسك بالشرع هو المحرك الأول للكرم، والباعث الأساسي للبذل والإنفاق؛ لذا فقد قرر القرآن أن المال مال الله، وأن الأغنياء مستخلفون فيه، ينفقون منه بإرادة الله، ويتمتعون به بمشيئته تعالى.
قال تعالى: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (سورة النور 33).
كما يقرر أن المال فتنة، على المسلم أن يحذرها؛ قال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (سورة الأنفال 28).
قال خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصديق أبو بكر -رضي الله عنه-: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء»، وعنه -رضي الله عنه-: «الجود حارس الأمراض».
وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: «الكرم أعطف من الرحم».
إذًا الكرم صفة أصيلة في النفس الكريمة، ومن أصل الصفات العربية التي يتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل؛ فالإنسان العربي اهتم بهذه الصفة الحميدة حتى غدا يُضرب به المثل؛ ذلك أن الكرم والجود من سمات القيادة والسيادة عند العرب؛ لذا قال الشاعر:
السِيادَة في الْسَخَاء ولَنْ تَرَى
الْبَخيل في الْعَشيرة يُدْعى سَيّدا
وأصل المحاسن كلها الكرم، وأصل الكرم نزاهة النفس، وجميع خصال الخير من فروع الكرم. وأغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأكرم الكرم حسن الخلق.
ورغم أن الأمير بندر - رحمه الله - لا تعد طيباته، ولا تُحصى خصاله وصفاته المحمودة، إلا أن هناك صفة ترجح في الميزان بتلك الصفات.
إن تلك الصفة هي الكرم؛ فلا يُذكر إلا وذُكر السخاء والكرم؛ فالكرم جبلة في الأمير بندر - رحمه الله - فقد كان جزءًا من تكوينه النفسي، وُلد به، ولم ينفك عنه، ولم يستطِع أن يقاوم هذه النزعة، وقد قيل (الإنسان سجين طبعه).
وقيل (شيئان لا يمكن أن يتعلمهما المرء إن لم يكونا من صفاته التي وُلد بها، هما: الشعر والكرم).
فمفتاح شخصية الأمير بندر -رحمه الله- (حب الخير)؛ فلحبه للخير لا ترتاح نفسه إلا إذا أعطى، ولا تستقر إلا إذا بذل.
ولا شك أن الكرم قرين كثير من الصفات الطيبة؛ فهو قرين الحلم، والمروءة، والإيثار، وحب الخير للناس، وغير ذلك من الصفات الطيبة.
يقول بعض الحكماء:
«أصل المحاسن كلها الكرم، وأصل الكرم نزاهة النفس عن الحرام، وسخاؤها بما يملك على الخاص والعام. وجميع خصال الخير من فروعه».
وقد كان مجلس الأمير بندر - رحمه الله - يؤمه جميع أطياف المجتمع، ويضم الأمراء والعلماء والمشايخ والمفكرين والمعلمين والكتّاب والمثقفين وكل المواطنين. رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تبسُّمك في وجه أخيك صدقة» رواه الترمذي.
والعرب - وهم أهل الكرم والنخوة والجود - امتدحوا مثل هذه الصفات الطيبة، صفة الكرم التي تحلى بها الأمير بندر.
يصدق عليه قول حاتم الطائي:
أُضاحكُ ضَيفي قبلَ إنزالِ رَحْلهِ
وَيخْصُبُ عِنْـدي والمَحِـلُّ جَدِيبُ
وما الْخصْبُ للأَضْيَافِ أَنْ يُكثر القِرَى
ولكنّمَـا وَجْـهُ الكَريم خَصـِيبُ
ويقول زهير بن أبي سلمى:
ترَاهُ، إذَا ما جِئْتَه، مُتَهلِّلاً
كَأنّكَ تُعْطيه الذَي أَنتَ سَائِلُه
فالكرم فضيلة عظيمة.. وقد برزت صور مشرقة للكرم والكرماء في التراث العربي القديم قبل الإسلام.
قيل: (إن رجلا سأل حاتم الطائي فقال: يا حاتم هل غلبك أحد في الكرم؟ قال نعم، غلام يتيم، وذلك أني نزلت بفنائه، وكان له عشرة رؤوس من الغنم، فعمد إلى رأس فذبحه، وأصلح لحمه، وقدم إليّ، وكان فيما قدم الدماغ، فقلت: طيب والله. فخرج من بين يدي وجعل يذبح رأساً بعد رأس، ويقدم الدماغ، وأنا لا أعلم، فلما رجعت لأرحل نظرت حول بيته دماً عظيماً، فإذا هو قد ذبح الغنم بأسرها، فقلت له، لم فعلت ذلك؟ قال: يا سبحان الله تستطيب شيئاً أملكه وأبخل عليك به! إن ذلك لسبة على العرب قبيحة).
فقيل: (يا حاتم فيما عوضته؟ قال: بثلاثمائة ناقة حمراء، وبخمسمائة رأس من الغنم).
فقيل: (إذًا أنت أكرم منه)، قال: (هيهات، بل هو والله أكرم؛ لأنه جاد بكل ما ملك، وأنا جدت بقليل من كثير).
ولأن الدنيا مزرعة الآخرة، وهي دار التكليف والعمل، وهناك أعمال تجري حسناتها دنيا وآخرة، والله سبحانه وتعالى مشرع الوقف، وجعله قربة من التقرب التي يتقرب بها إليه جلّت قدرته، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا ينشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورثه، ومسجدًا بناه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته». رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
والأمير بندر - رحمه الله - كان من أهل الخير والبر، عرف فضائل الوقف النافعة التي تعين على الخير والأعمال الصالحة، فتعين أهل الخير والعباد، وتسد حاجات الفقراء، وترفع راية الدين، وتنشر العلم النافع.
ولأهمية إنشاء المساجد ورعايتها والقيام بشؤونها امتثالاً لقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (سورة التوبة 18)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من بنى مسجدًا لله تعالى يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتًا في الجنة» رواه البخاري ومسلم.
والأمير بندر - رحمه الله - كان له القدح المعلى في بناء المساجد وقفًا لله سبحانه وتعالى؛ فالعديد من المساجد قام الأمير بندر ببنائها، والقيام بواجباتها داخل وخارج أرض الوطن. ومن أجل أن يقوم الأئمة والمؤذنون بواجبهم على أفضل وجه خصص سكنًا للإمام، وآخر للمؤذنين، وتعتبر من ضمن مرافق الوقف وملحقاته.
فضلاً عن العديد من الآبار الارتوازية لشرب الناس والماشية، كانت من أول اهتماماته في دول تحتاج إليها، خاصة في بعض الدول الإفريقية.
ومن خلال الجمعية الخيرية التي أسسها، وكان يشرف عليها بنفسه، التي من أهم أهدافها دعم وقفه للمساجد العديدة التي أوقفها، فإن الجمعية غطت مشروعات أخرى، منها جوائز لحفظة القرآن الكريم، وأي عمل أشرف من حفظة كتاب الله في الدنيا والآخرة، وحافظ القرآن من أهل الله.
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لله أَهْلِين من الناس». قالوا مَن هم يا رسول الله؟ قال: «هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته» رواه ابن ماجه.
رحمك الله أمير الكرم والجود، وأسكنك فسيح جناته. اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة، اللهم ارزق أسرته الكريمة الصبر بقدر اشتياقهم لمن فرق بينهم وبينه الموت، اللهم اجزِ الأمير فهد بن عبد الله بن محمد آل سعود خير الجزاء عن بره بعمه قبل وبعد مرضه. ولا حول ولا قوة إلا بالله. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.