د. ناصر بن علي الموسى
لقد حقَّق قطاع التعليم في المملكة بمستوياته المختلفة قفزات كمية ونوعية غير مسبوقة على مستوى العالم؛ ويعود الفضل في ذلك إلى توفيق الله - سبحانه وتعالى -، ثم إلى الدعم السخي الذي حظي - وما زال يحظى - به التعليم من لدن قيادتنا الحكيمة منذ تأسيس هذا الكيان العظيم على يد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن - طيب الله ثراه - حتى عهدنا الزاهر عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله -.
والمملكة تعيش اليوم عصرًا ذهبيًّا من التغير والتطور والتحضر، وتسعى إلى تحقيق الرقي والتقدُّم من خلال رؤيتها الطموحة (2030) بقيادة مهندسها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع - وفقه الله -. وقد جعلت هذه الرؤية التعليم أحد محاورها الأساسية، وأهم الأدوات التي يمكن توظيفها في سبيل تحقيق أهدافها.
وفي هذا الإطار فإن وزارة التعليم - حاليًا - تسعى سعيًا حثيثًا، وتعمل عملاً متواصلاً، وتبذل جهودًا ومساعي كبيرة، وتطلق مشاريع ومبادرات كثيرة، ليس فقط من أجل أن يكون التعليم مواكبًا لمتطلبات هذه الرؤية، وإنما بغرض أن يكون هو المحرك الأساس لعجلة التطور والوصول إلى المستهدفات.
والسؤال المهم الذي يطرح نفسه هو: ما هو دور تمهين التعليم؟ أي تحويل الوظائف التعليمية إلى مهن تعليمية احترافية في تحقيق هذا التطور الكمي والنوعي الهائل في البرامج والخدمات والنشاطات التعليمية؟!
إن نظرة سريعة في الزمن الماضي تُظهر أن تمهين التعليم كان حلمًا طالما راود الكثيرين من مسؤولي وزارة التعليم بمسمياتها المختلفة؛ فقد عمدت الوزارة في فترة مبكرة إلى إنشاء كليات المعلمين، وقامت الرئاسة العامة لتعليم البنات - آن ذاك - بإنشاء كليات التربية للبنات، وكان أحد الأهداف الرئيسة لإنشاء هذه الكليات هو الإسراع في النهوض بمستوى تمهين التعليم؛ وذلك بحكم أن هذه الكليات وثيقة الصلة بالميدان التربوي، وأن القائمين عليها هم من المسؤولين في الجهتين، الذين يُفترض أن يكونوا على دراية تامة باحتياجات ومتطلبات العمل التربوي.
وفي فترة لاحقة ظهرت أفكار تطالب بتحويل هذه الكليات إلى جامعة أو جامعات، تُعنى بإعداد المعلمين والمعلمات، إلا أن الأمر انتهى - في نهاية المطاف - بهذه الكليات إلى وضعها الطبيعي، وهو إلحاقها بكليات التربية في الجامعات. وفي هذا الإجراء تحقيق لمبدأ التكامل بين المؤسسات التعليمية، وتوحيد للجهود، وتلافٍ للازدواجية، وترشيد للإنفاق.
ونادى بعض المسؤولين في قطاع التعليم بفكرة إيجاد سُلَّم رتبي، يتدرج فيه المعلمون من رتبة إلى أخرى، واعتماد رخصة مهنة للمعلم، تؤهله للالتحاق بالتعليم، ويتم تجديد هذه الرخصة بشكل دوري، ورأى البعض ربطها بعملية تقويم أداء المعلمين والمعلمات. وهذا شبيه - إلى حد كبير - بما اشتملت عليه لائحة الوظائف التعليمية التي صدرت عن مجلس الوزراء الموقر مؤخرًا.
وتحمس آخرون إلى إنشاء جمعية مهنية للمعلمين، تُعنى بالنمو المهني للمعلمين والمعلمات، وتعمل على تأطير الأدلة والمرجعيات، وتضع الضوابط والمعايير والمحكات، وتهتم بحقوق المعلمين والمعلمات، وواجباتهم.
ومع أهمية هذه الفكرة إلا أنها ظلت في طور الأحلام والأمنيات، واليوم لا يزال الكثير من المعلمين والمعلمات الذين يشكلون الشريحة الكبرى في قطاع الخدمة المدنية يتوقون إلى تجسيد هذه الفكرة في جمعية مهنية، أو حتى أفضل من ذلك: هيئة عامة، تُعنى بشؤونهم.
وتزداد الطموحات وتكبر الآمال من أجل تحقيق هذا المطلب في ظل رؤية المملكة (2030) التي تقوم في آلياتها على الإصلاح والتطوير والتغيير في الهياكل الإدارية والكيانات المؤسسية.
وينبري عدد من المسؤولين في الوزارة إلى تبني فكرة التقويم الشامل للمدرسة، الذي يهدف إلى تحويل المدرسة إلى مؤسسة مهنية، تلتزم بمقومات الاعتماد البرامجي والمؤسسي كافة، ثم يأتي المشروع العملاق المتمثل في التقويم المستمر.
ولا شك أن هذه المشاريع العملاقة والمبادرات الخلاقة التي استمر بعضها، واندثر بعضها، وتطور بعضها، وتغيَّر بعضها، كلها أو أجزاء منها قد تركت أثرًا إيجابيًّا عميقًا على التعليم في بلادنـا، غير أنها - مع الأسف الشديد - لم تحقق إلا النزر اليسير من أهدافها الرامية إلى الإسهام في تحقيق مفهوم تمهين التعليم.
وعلى هذا الأساس، فإنه يمكن القول بأن واقع تمهين التعليم في بلادنا هو واقع أليم؛ وهذه هي الدلائل والمؤشرات:
أولاً: مع أن هيئة تقويم التعليم والتدريب تقوم بجهود مشكورة في سبيل تحقيق الاعتماد البرامجي والمؤسسي في قطاعات التعليم المختلفة، وتعمل على وضع الضوابط والمعايير والأُطر المرجعية لتمهين التعليم وتطويره، إلا أنها ما زالت في بداياتها، وتحتاج إلى استقطاب الكفاءات المتخصصة في مجال القياس والتقويم، كما أنها بحاجة إلى المزيد من بذل الجهد في سبيل تطوير خططتها واستراتيجياتها، وتفعيل أدواتها وآلياتها، والتعريف بمنتجاتها، والعمل مع القطاعات التعليمية والتدريبية على تطبيقها على أرض الواقع.
هذا، مع التشديد على حقيقة مهمة، مؤداها أن واقعنا الحالي نحن التربويين يُظهر بوضوح أن مؤسساتنا التعليمية والتدريبية تفتقر إلى تحقيق مبدأ التعاون والتنسيق والتكامل فيما بينها في أعمالها كافة، إضافة إلى أن وسطنا التربوي متعطش جدًّا إلى نشر ثقافة التقويم البرامجي والمؤسسي، الذي من أساسياته تشخيص الواقع، وإبراز إيجابياته بغرض تعزيزها، وتبيان سلبياته كي يمكن تلافيها، وهذا - ولا شك - يتطلب تقبُّل الرأي الآخر، والاستفادة من النقد البنّاء باعتباره الأسلوب الأمثل للبناء، وذلك بعيدًا عن المشادات الكلامية والتراشقات الإعلامية التي لا تليق بأخلاقيات مهنتنا.
ثانيًا: استبشرت الأوساط التربوية خيرًا بإعلان وزارة التعليم الموافقة على مشروع تنظيم المعهد الوطني للتطوير المهني التعليمي، وأن هذا المعهد يتمتع بالشخصية الاعتبارية العامة والاستقلال المالي والإداري، وأنه سيسهم في دعم تمهين التعليم والارتقاء بمستوى الممارسات المهنية التعليمية إلى مستوى العمل الاحترافي الذي تنشده الوزارة، بيد أنها فوجئت بأن هذا المعهد سيقوم بمهام واختصاصات تتداخل - بشكل واضح - مع مهام واختصاصات بعض مكونات المنظومة التعليمية والتدريبية في المملكة؛ الأمر الذي سينجم عنه ازدواجية في العمل. فعلى سبيل المثال: سوف يقوم المعهد بوضع واعتماد الضوابط والمعايير اللازمة لبرامج تأهيل ممارسي العمل التعليمي. وهذا العمل اختصاص أصيل من اختصاصات هيئة تقويم التعليم والتدريب. كما سيقوم المعهد بإعداد الأبحاث والدراسات. وهذا أيضًا اختصاص أصيل من اختصاصات الجامعات؛ وعليه فإنه يتعين على وزارة التعليم إعادة النظر في مهام واختصاصات هذا المعهد قبل أن يبدأ عمله بما ينسجم مع مهام واختصاصات الجهات التعليمية والتدريبية الأخرى؛ كي يصبح مكملاً ومتممًا لها، بدلاً من الازدواجية معها.
ثالثًا: خرجت لائحة الوظائف التعليمية إلى حيز الوجود بعد انتظار طويل، لكنها لم تعالج المشكلة المزمنة التي لازمت مسيرة تعليمنا طيلة السنوات الماضية، وأعني بذلك انخراط أعداد كبيرة من غير التربويين في سلك التعليم؛ الأمر الذي أثر سلبًا على مخرجاته. وقد نجم عن هذا الخلل الواضح في اللائحة تناقض بيّن؛ فمن جهة تدعو اللائحة إلى تمهين التعليم، ومن جهة أخرى تدع باب التعليم مفتوحًا على مصراعيه للتربويين وغير التربويين، فكيف يكون ذلك؟!
إن التربويين يجمعون على أن أول خطوة في سبيل تمهين التعليم هي ضبط مدخلاته، ومن ثم تحسين مخرجاته؛ فكما أنه لا يجوز لغير الطبيب مزاولة مهنة الطب، ولا يسوغ لغير المهندس ممارسة مهنة الهندسة، ولا يمكن لغير القاضي أن يعمل في مهنة القضاء، فمن باب أولى ألا يمتهن مهنة التعليم إلا المختصون في المجالات التربوية؛ فالتعليم هو الذي يخرِّج الأطباء والمهندسين والقضاة وغيرهم من شرائح المجتمع؛ وعليه فالدبلوم الذي يشترط لتعيين مساعد المعلم - كما ورد في اللائحة - يتعيَّن أن يكون تربويًّا، وكذلك معلمو المواد، كمعلم العلوم الشرعية، ومعلم اللغة العربية، ومعلم الرياضيات، ومعلم الفيزياء، ومعلم الكيمياء.. وغيرهم، لا ينبغي تعيينهم في سلك التعليم إلا بعد الحصول على دبلوم تربوي.
رابعًا: طبَّقت الوزارة التقويم المستمر بهدف النهوض بمستوى محتوى التعليم، وعلى أساس أنه ركن من أركان عملية تمهين التعليم.
ولا يختلف اثنان على أن هناك ممارسات خاطئة، صاحبت عملية التقويم المستمر منذ بداية التطبيق حتى الآن. ومن الطبيعي أن تكون هذه الأخطاء في التطبيق قد أسهمت في التأثير السلبي على التحصيل الدراسي لدى الطلاب والطالبات، وكان الأجدر بالوزارة أن تمضي قُدمًا في عملية تطوير التقويم المستمر، وذلك من خلال معالجة هذه الممارسات الخاطئة، بدلاً من التراجع بالعودة إلى الاختبارات التقليدية، وخصوصًا إذا ما عرفنا أن الهدف الرئيس من تطبيق التقويم المستمر في مدارسنا كان هو النهوض بمستوى العملية التربوية والتعليمية في بلادنا، إضافة إلى التغلُّب على السلبيات الكثيرة التي تنجم عن تطبيق الاختبارات التقليدية. فالتقويم المستمر هو أسلوب معمول به في كثير من دول العالم المتقدم، وهو يقوم على مبدأ صحيح ومسار سليم. والمهم أنه تقويم من أجل التعلم؛ فهو يقتضي متابعة الطالب طوال العام الدراسي للوقوف على نقاط القوة لديه بغرض تعزيزها، والتعرف على نقاط الضعف كي يمكن تلافيها.
ولا يوجد أدنى شك بأن الوزارة تدرك إدراكًا تامًّا أن التقويم المستمر، والممارسات الخاطئة التي صاحبته، ليست هي المتغير الوحيد الذي يؤثر سلبًا على التحصيل الدراسي، بل هناك العديد من المتغيرات التي تفوق في تأثيرها هذا المتغير.
خامسًا: صاحب انتشار التعليم السريع في جميع أنحاء المملكة ظهور بعض المشكلات التي تراكمت وتفاقمت عبر السنين، وأسهمت في جعل البيئات التعليمية غير مهيَّأة لتحقيق مفهوم تمهين التعليم. ومن أبرز هذه المشكلات - على سبيل المثال لا الحصر - اعتماد تعليمنا على أساليب الحفظ والتلقين، وعدم الاستفادة المثلى من التعليم التفاعلي أو التعليم التعاوني الذي يكون فيه الطالب محور الارتكاز، ويصبح المعلم مشرفًا على العملية التعليمية، وقلة التدريب النوعي المقدم للمعلمين والمعلمات، وتكدس الطلاب والطالبات في الصفوف الدراسية، وطول المناهج الدراسية، وقلة المحفزات الإبداعية فيها، وضخامة الكتب المدرسية المحشوة بالمعلومات الكمية التي - في الغالب - لا تراعي خصائص واحتياجات الطلاب والطالبات، والتطبيقات التقنية الحديثة التي كان ينبغي على الوزارة أن تعمل على تحويلها إلى معطيات إيجابية في حياة الطلاب والطالبات، بدلاً من تأثيراتها السلبية عليهم، والمباني المدرسية التي يفتقر كثير منها إلى أبسط معايير الجودة، والبيئات الصفية التي لا تتوافر فيها مقومات التفوق والتألق والإبداع، وعدم تفعيل تفريد التعليم الذي يحتاج إليه أكثر من (20 %) من إجمالي الطلاب والطالبات، وما إلى ذلك من المتغيرات التي تؤثر - بشكل سلبي - على التحصيل الدراسي لدى طلابنا وطالباتنا.
ومع كل ما سبق، فإنني متفائل جدًّا بمستقبل تمهين التعليم في مؤسساتنا التعليمية؛ فالمملكة تسير بخطى واسعة واثقة في مجال التخطيط والتطوير والتأطير والتقعيد والتقنين في مختلف قطاعاتها، وتعتمد الحوكمة والوضوح والشفافية في منهجياتها كافة، وتسعى إلى تحويل بيئات عملها إلى بيئات تحكمها مؤشرات قياس الأداء، ويسود فيها التفوق والتألق والإبداع.
ومن جهة أخرى، فإن جوانب القصور التي تمت الإشارة إليها آنفًا هي - في معظمها - ناجمة عن خلل بعمليات التطبيق، أو خطأ في مجريات الممارسة، وليست مرتبطة بصحة مبدأ تمهين التعليم وسلامة مساره؛ وهذا يعني أنها من النوع الذي يمكن معالجته والتغلب عليه. ثم إن مكونات المنظومة التعليمية في المملكة أصبحت - بحمد الله - قادرة على إيجاد البنية التحتية والبنية الفوقية اللازمتَين لتحقيق مبدأ تمهين التعليم شريطة أن تلتزم جميعها بهذا المبدأ، وتعمل بموجبه في مجالات عملها كافة، مع التشديد على أمر مهم، هو أن تمهين التعليم مجرد وسيلة لتحقيق غاية نبيلة، هي الارتقاء بمستوى التعليم، وتجويد مخرجاته.