عطية محمد عطية عقيلان
كان الخلاف بين جرير والفرزدق الأشهر بين الشعراء، والذي امتد أربعين سنة يهجو بعضهم بعضًا، ولم تفلح محاولات الصلح والتهدئة بينهما، ولكن عند وفاة الفرزدق رثاه جرير بندم وحسرة بأبيات مؤثرة منها:
لَعَمري لَقَد أَشجى تَميماً وَهَدَّها
عَلى نَكَباتِ الدَهرِ مَوتُ الفَرَزدَقِ
عَشِيَّةَ راحوا لِلفِراقِ بِنَعشِهِ
إِلى جَدَثٍ في هُوَّةِ الأَرضِ مُعمَقِ
لَقَد غادَروا في اللَحدِ مَن كانَ يَنتَمي
إِلى كُلِّ نَجمٍ في السَماءِ مُحَلِّقِ
لذا من أصعب اللحظات التي تمر في حياتك عندما تفقد قريبًا أو صديقًا كنت على قطيعة أو مشاحنة واختلاف دائم معه في حياته، وكنت دومًا تبحث عن انتصار في كل موقف معتقدًا أن ذلك يمنحك القوة والشعور بالزهو لثبوت صحة قولك أو فعلك، ولكن عند مفارقته ومشاركة تشييعه وإهالة التراب على قبره يراودك شعور لا ينسى وتتذكر كل مواقفه الإيجابية وتستصغر ما كان بينكما من خلافات، وترى سخافة تصرفاتك من أجل انتصار لحظي لا قيمة له، وتتمنى أن يعود بك الزمن من أجل اقتناص فرص اللقاء في استمرار الصداقة أو صلة الرحم بعيدًا عن إثبات صحة وجهة نظرك.
لنوطد علاقاتنا بمن نحب وهم أحياء ونبحث عن توافقات وتفاهمات ومسامحات حقيقة كمنهج حياة لكي لا نحصد الندم بعد فقدهم وفوات الأوان، فليس من المهم تحقيق انتصار على حساب زوال ود أو إضعاف علاقة وإن كنت على حق، فلنحرص على استمرارها وتطبيق حسن المعشر والتغافل عن الزلات. فمهما بلغنا من المثالية فنحن نرتكب الأخطاء والهفوات وسوء الفهم، ولنستفيد من انتمائنا الإنساني ونطبق في حياتنا نسيان أو تناسي زلات أقاربنا وأصدقائنا لتستمر العلاقة بحب وود، وهذه ستضفي سعادة وراحة فيها بعيدًا عن تصيد الهفوات واللؤم في ردات الفعل واتخاذ المواقف.
لنتجنب البحث عن الانتصارات اللحظية وإن كنت محقًا خاصة في علاقتك مع والديك وإخوانك وأصدقائك، لأنك ستكتشف بعد رحيلهم أنها كانت انتصارات وهمية لا قيمة لها مقارنة بما فقدته من جمال ورقي العلاقة، فقط عليك أن تمارس التغاضي والتغافل وتقبل الهزيمة من أجل استمرارها واستقرارها، لأنك ستكتشف أن خسارتك كانت أكبر من لحظات وهم الانتصارات المؤقتة التي حققتها معتقدًا أن رأيك كان صحيحًا، ولنبدأ دومًا بالتفكير جديًا بأهمية علاقتنا عند النقاش ونضع في حسابنا المحافظة عليها حتى لا نخسرها من أجل أثبات وجهة نظر رياضية أو عزيمة أو اتصال أو بضع دراهم خسرتها في علاقتك معهم، وتأكد أنك في النهاية الكاسب الأكبر والأسعد بإحاطة نفسك بأصدقاء محبين وأقارب راضين بعلاقات حقيقية بعيدًا عن مطالبتهم بأن يكونوا مثاليين وحسب المزاج. جعلني الله وأياكم ممن غض الطرف وتغافل عن الزلات رغبة في صلة الرحم واستمرار ود وإسعاد صديق.