د. حمزة السالم
النظرية هي نتيجة منطقية -أو هكذا هو المفترض- تولَّدت من تحليل منطقي وربط منطقي يُسلسل أمورًا بترتيب معين، في موضوع ما. وهذه العملية الفكرية هو ما يُسمى بالتنظير. والتنظير في اعتقادي ثلاثة أنواع، تنظير فلسفي، وتنظير تطبيقي، وتنظير تجريبي.
فالنظرية الفلسفية تبدأ من فوق أو من العدم، أي من عقل المُنظر، فتبدأ بتقرير نتيجة ما، ثم تُستخدم الحوادث والمعطيات لمنطَقة هذه النتيجة. فترى الفيلسوف يتصور مدينة فاضلة كأفلاطون، أو مجتمعًا مثاليًا ككارل ماركس، ثم تراه يُمنطِق معطيات يتصور وجودها أو تكون موجودة في الواقع، ويربط بينها حتى يصل إلى النتيجة التي وضعها مسبقًا. وهذا النوع من التنظير يفشل عندما صحته بالتطبيق على أرض الواقع، كالشيوعية، أو تفشل باستحالة التطبيق كمدينة أفلاطون.
وأما النظرية التطبيقية، فتبدأ من معطيات موجودة في الواقع، فيربط بينها المُنظر برباط منطقي، لتُوصله لنتيجة ما. هذا التنظير أصبح اليوم يُختبر منطقه بإثباته رياضيًا. كتفاحة نيوتن التي أخرجت نظرية الجاذبية، بدأت من ملاحظته لسقوط تفاحة وهي ظاهرة موجودة حقيقة لا تصورًا. وكنظريات الاقتصاد اليوم، فهي عبارة عن ملاحظة لظواهر معينة موجودة، يحاول المُنظر الربط بينها بعلاقة منطقية، كارتفاع الأسعار مع انخفاض البطالة مع نمو الاقتصاد مثلاً، فيستنتج أن النمو يسبب التضخم ويرفع الأسعار، وثم يُختبر هذا المنطق بإثباته رياضيًا، فمتى أثبت رياضيًا صارت نظرية اقتصادية حديثة. والنظرية المثبتة رياضيًا لا تخطئ أبدًا، إذا كانت المعطيات (المدخلات) هي نفسها تمامًا لا زيادة ولا نقصان، إلا إذا أضاف هذه المعطيات الجديدة على النظرية أو الموديل الرياضي.
فالرياضيات وعاء منطقي لا يخطئ، ومقياس صارم على صحة المنطق. فما قامت الاختراعات الحديثة إلا بسبب وجود الرياضيات، حتى دخلت تقريباً في كل أنواع الإنتاج، كالاتصالات والقنابل والأسلحة والكهرباء والطيران، والفلك، والحواسب، وكل شيء أو اختراع كان يُعَدُّ سحرًا قبل قرن أو قرنين.
وقد دخلت الرياضيات كل أنواع العلوم الحديثة، لأنها قادرة على تأدية غرضين أساسيين في وجود العلم وتطوره: الأول: ضبط المنطق الإنساني عن الخطأ. فالتحليل والتسلسل الذي يدور في عقل المخترع أو المفكر، يُصب في قالب الرياضيات، لاختبار صحة منطقه، ولتنظيمه في قواعد، تصير أساسات لتطوير الفكرة.?. لتوحيد اللغة التي يقرأ بها أهل ذاك العلم، ليمكن تعلمه من البشر وتطوير الفكرة عبر الأجيال. فهي كالكتابة التي وثقت علوم العالم القديم والحديث. فالكتابة مجرد وعاء يُصَبُّ فيه الأفكار والأحداث، لتحفظ وتُرى ولتتناقلها الأجيال.
وأخيراً النوع الثالث من النظريات، وهي النظرية التجريبية. والتنظير التجريبي قد يبدأ من عشوائية أو من تخمين وجود علاقة ما بين عوامل معينة، وثم تُختبر هذه العلاقة بعد ذلك بتكرار التجربة لإثبات اطراد هذه العلاقة، ثم يُختبر منطقها بإثباتها رياضيًا.
والنظرية التطبيقية أو التجريبية، المثبتة بالرياضيات، أثبت الزمان استمراريتها وثباتها واطرادها عبر الثقافات والبلدان والأزمان. وذلك لسببين اثنين:
الأول: أن المنطق فطرة، يولد مع الإنسان كالسمع والبصر. نعم تأتي عليه غباشة تضعفه أو تذهب به أو تقلبه. ولذا لا تزداد قوة منطق شخص بتعلم المنطق، فمستوى المنطق المولود مع الإنسان ثابت كالطول وعدد الأيدي. لكن غالبًا ما ينقص أو يختفي بسبب عادات أو تربية، فمتى عُولج بتعليم المنطق، رجع لمستوى منطقه التي رزقه الله إياها. وشاهد ذلك الاختبارات القياسية لقبول الدراسات العليا، تعتمد على مستوى أولى متوسط في الرياضيات. فالرياضيات مجرد أداة لاختبار منطق المتقدم للبرنامج. ومن المعلوم، أن الطالب يتحسن بتعلم هذه الاختبارات والتدرب عليها، حتى يصل لمستوى معين -هو مستوى المنطق الذي وُلد معه-، ثم لا يتعداه أبداً ولو قضى عمره تدربًا وتعلمًا للاختبار.
الثاني: أن المنطق لا يتغير بتغير الزمان والمكان، فلا يوجد منطق جديد وآخر قديم، (والاقتصاد علم منطق، فمن قال إن هناك اقتصادًا إسلاميًا وآخر علمانيًا وثالثًا نصرانيًا، فقد خذله منطقه في مقولته هذه).