عبدالمجيد بن محمد العُمري
بعد سنتين من بداية الرحلة عاد حضور الريحاني بقوة ولكن ليس من باب الرحلات بل ضمن فريق الوساطة بين الملك عبدالعزيز والشريف حسين حيث اقترح فؤاد الخطيب وكان مسؤولاً عن الشؤون الخارجية لدى حكومة الأشراف، ودعي من الملك حسين، شريف مكة لأن يتوسط بين جلالته وجلالة الملك عبدالعزيز آل سعود، ووافق الملكان على تكليف الريحاني واختاراه من بين الشخصيات المصرية والعراقية والهندية والإنجليزية التي تقدمت تعرض خدماتها للصلح، وقبلها كان قد حضر مؤتمر العقير وماجرى فيها من معاهدة بينه الملك عبدالعزيز وبين الوفد العراقي برئاسة السير برسي كوكس، المندوب السامي البريطاني في العراق وذلك لتحديد التخوم بين نجد والعراق، ويقال إن الريحاني أسهم في وضع مشروع المعاهدة باللغتين العربية والإنجليزية.
هكذا كانت بداية رحلات الريحاني في العالم العربي منطلقة من مكة المكرمة مع رفيقه النصراني الآخر قسطنطين يني والمقيم في مكة وكما أشرت فهناك العشرات من الرحالة الذين سبقوا هذين الرجلين وسأكتفي بإشارات سريعة لبعض من زاروا مكة المكرمة والمدينة المنورة وهم:
1- الإيطالي لودفيكو دي فارثيما (Ludvico di Varthema) الذي زار مكة في عام 1503م ، كما زار المدينة المنورة وقبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الرحالة متخفياً بزي مسلم، ويعتقد أنه أول أوربي غير مسلم زار مكة والمدينة. سمى نفسه «الحاج يونس». توجه من دمشق إلى مكة والمدينة كواحد من المرافقين للمماليك في قافلة الحج، وفي مكة شك بوضعه تاجر مسلم وأنه جاسوس نصراني، ولكن فارتيما رد الإتهام بأنه من المماليك، ثم هدأت الشكوك، وشرح له التاجر أن الأوضاع مضطربة وعلى حافة الهاوية في البلاد بسبب أنشطة الإمبراطورية البرتغالية في المنطقة، وألف كتاب «بلاد العرب القاصية» وترجمت رحلاته إلى العربية نقلاً من ترجمة إنجليزية من قبل عبدالرحمن عبدالله الشيخ، ونشرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة الألف كتاب عام 1994م.
2- البحري الفرنسي فنسنت لو بلان ( Vincent Le Blanc) وذكر بأن زيارته تمت في عام 1568م ، وكان هذا المغامر قد ترك فرنسا وعمره 14 عاماً مما يبعد عنه صفة الجاسوسية وتنقل في مناطق عديدة حتى استقر في دمشق ومنها انطلق إلى مكة المكرمة مع صديقه الفرنسي كاسيس، ومعظم ذكريات هذا المرسيلي الفرنسي تدور حول التجارة والبيع والشراء وأحوال الأسواق.
3- الألماني جون وايلد ( Johann Wild) ، وقد زارها وهو أسير في عام 1607م وقد كان ممن أسر ثم بيع في سوق النخاسة في استانبول إلى تاجر من مصر، فأخذه التاجر معه إلى القاهرة حيث بيع للمرة الثانية لتاجر من فارس، وهو من صحبه معه لأداء فريضة الحج. ودون مشاهده في مكة المكرمة وقت الحج وما يعانيه الحجاج من المتاعب والمصاعب، وذكر إن الحجاج الذين رافقهم عانوا في الطريق معاناة كبيرة، ومات منهم عدد عظيم، ونفق من الجمال أعداد لا تحصى. وصف وايلد مناسك الحج من دخول الحجاج مكة المكرمة حتى زيارتهم للمدينة المنورة.
4- الإنجليزي جوزيف بيتس ( Joseph Bates ) الذي سمّى نفسه (الحاج يوسف) و هو أول رحالة انجليزي يدخل مكة المكرمة، ودخلها وهو عبد مملوك مع مالكه المسلم عام 1680م وكان قد اشتراه قبل عامين من الرحلة، وسافر بيتس رفقة سيده ضمن ركب الحج الجزائري متجهاً إلى مكة عبر البحر الأبيض المتوسط مروراً بالإسكندرية، وظل هذا الإنجليزي في مكة المكرمة أربعة أشهر ودخل الكعبة مرتين، وبعد أن وصل إلى الجزائر، أعتق بيتس ومنحه سيده حريته بعد سنوات في العبودية، وكتب له ما يفيد عتقه، فعاد بيتس -باختياره- إلى الجزائر وعاش مع سيده السابق سنوات طويلة قبل أن يفكر في الهرب ومن خلال إقامته الطويلة بين المسلمين ألف كتاباً سمّاه (حقائق عن الإسلام).
5- الإسباني دومينغو فرانسيسكو باديا ليبلش Domingo Francisco Jordi Bad?a y Leblich سمى نفسه علي بيك العباسي، ورحل إلى مكة المكرمة في عام 1807م ، وتخفى بزي الأشراف والعظماء، وادعى أنه من سلالة الأشراف (العباسيين) في الغرب وكان يومذاك معه جماعة من الخدم وحاشية كبيرة، وقال المؤرخ بنس إنه كان يهودياً ولكن بعض المؤرخين نفوا يهوديته وقالوا إنه مسلم من مراكش ولكن آدابه إسبانية، وقال آخرون إنه نصراني فلما مات في بلاد الغرب رأوا صليباً على صدره وعلى هذا الأثر رفض العرب أن يدفنوه، وقد أدرك هذا الزائر الدولة السعودية الأولى وآثار دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في مكة المكرمة، وقد كانت رحلته ممونة من القائد الفرنسي نابليون.
6- الروسي أولريخ جاسبار سيتزن (Ulrich Jaspar Seetzen ) وهذا الرجل كان أستاذاً في العربية إلى جانب علم النبات والحيوانات وزار مكة المكرمة عام 1809م وكانت أيضاً في زمن الإمام سعود بن محمد وتبعية الحجاز له آنذاك وأدرك الحج لبقائه عدة أشهر وتسمى بـ (حاج موسى)، ودون في كتابه SOUTH ARABIA (بلاد العرب الجنوبية) مشاهده في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكان مغرماً بجمع (الحيات) ويضعها في قوارير ويضع عليها مواد زيتية حتى لاتتعفن، وانتهى به المطاف مقتولاً في مسقط.
7- السويسري الثري جان لويس بركهارت John Lewis Burckhardt المعروف بـ»الشيخ إبراهيم بن عبد الله الشامي»، وكانت له شهرة كبيرة ومعروفاً لدى العرب لكثرة رحلاته وتردده عليهم، وبلباسه العربي وإجادته للهجات وأصبح كأنه رجل شرقي وقد كانت زيارته لمكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة عام 1814م، ولم يكن الرحالة الأوروبي الأول الذي يزور المدينتين المقدستين في الجزيرة العربية، ولكنه أول من كتب وصفًا دقيقًا لهما وقد دون في كتابه أحوال مكة المكرمة وأهلها وطبائعهم ومن وفدوا عليها وسمى مكة والمدينة بـ (فردوس الشحاذين) لكثرة المتسولين.
8- الإيطالي جيوفاني فيناتي Giovanni Finati وبدأ حياته قسيساً، ثم انتقل للعمل مع جيش نابليون، لكنه هرب من الخدمة العسكرية ليقع أسيرا في أيدي القوات العثمانية، ورفض خلال أسره الدخول في الإسلام فأجبر على العمل في المحاجر، ثم أعلن إسلامه وتسمى بمحمد (حاجي محمد)، وأصبح حاملاً للمزمار وضمن الجنود المرتزقة الذين التحقوا بجيش محمد علي ضد الدعوة السلفية في نجد بقيادة طوسون باشا بن محمد علي، وقد نجا من القتل عدة مرات، وكان قدومه لمكة المكرمة عام 1814م.
9- الضابط الفرنسي ليون روش (Leon Roches) ( الحاج عمر ) وكان قدومه متخفياً مع قافلة الحجاج عام 1841م وزار المدينة وأدى مناسك الحج مع الحجاج الجزائريين ليؤلف بعد ذلك كتابه عام 1884 الذي أسماه «32 سنة في الإسلام». وكان الهدف الرئيسي لرحلة روش، الحصول على موافقة شرعية بعدما أقنعت السلطات الفرنسية عام 1881 بعض مشايخ الطرق الصوفية بإصدار فتوى بجواز بقاء مسلمي الجزائر تحت الحكم الفرنسي والتوقف عن الجهاد، ما دام المستعمر يسمح لهم بإقامة الشعائر الدينية، وتم تكليف روش بحمل الفتوى إلى علماء تونس وليبيا ومصر والحجاز للمصادقة عليها، وغادر روش الجزائر في مهمته الجديدة، وأحاله علماء الجزائر إلى علماء الأزهر الذين أحالوه إلى علماء مكة المكرمة التي يتجمع فيها خلال فترة الحج علماء المسلمين من المدينة المنورة ودمشق وبغداد للفتوى التي صاغها الفرنسيون ليحتجوا بها ضد مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري في الجزائر، وذلك بعدما تمكن، إثر تنقلات متعددة، من حضور مجلس العلماء في الطائف برعاية حاكم مكة المكرمة آنذاك.
10- الفنلندي جورج أوغست فالين ( Yrj? Aukusti Wallin )الذي تعلم العربية والتركية و الفارسية في سانت بترس برغ بروسيا وقدم عام 1845م وأيضا لبس ملابس المسلمين وتسمى باسم ( عبدالولي ) أو (ولي الدين) وورد مع قوافل الحجاج، ودون رحلته وذكرياته وتوفي دون سن الحادية والأربعين وطلب من والدته أن يدفن في مقابر المسلمين، وأن يكتب على شاهد قبره اسمه الإسلامي «عبد الولي» بالعربية.
11- الإنجليزي السير ريتشارد فرانسيس برتون (Richard Francis Burton) التحق بالجيش البريطاني في الهند، حيث عمل ضابط استخبارات. ذهب بيرتون في رحلة حج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، حيث تنكَّر في هيئة مسلم بشتوني وتلقَّى الدعم من قِبَل الجمعية الجغرافية الملكية ودخل مكة المكرمة عام 1853م مع جماعة من الحجاج، وقضى بيرتون في المدينة شهراً كاملاً، شغل نفسه فيه بزيارة معالمها والكتابة عنها ولم يمتدح أخلاق أهل مكة المكرمة آنذاك وقال إنهم متكبرون وذوو أخلاق سيئة وأنهم لا دينيون ولكنه امتدح جرأتهم ونشاطهم، ولم يكن أول شخص غير مسلم يؤدي شعائر الحج، إلا أن دقة سرده وجودة توثيقه، بما في ذلك قياساته للكعبة في مكة وملاحظاته عن المسلمين.
12- الألماني فون مالتزن ( H.Von. Malzen ) الذي أتى لمكة المكرمة عام 1860م في زي المغاربة بعد أن درس اللغة العربية واللهجة المغربية في شمال إفريقية، وحينما اكتشف أمره أضطر إلى الفرار لينجو بحياته إلى جدة بدون زيارة المدينة المنورة، وكتب تقريراً في 750 صفحة عن رحلته تلك وبعد خمسة أعوام من رحلته أصدر كتابه عام 1865م في ألمانيا.
13- الإنجليزي شارلز مونتاج داوتي ( Charles Montage Doughty ) الذي التحق بقافلة الحجاج عام 1876 برفقه قافلة السمن المتجهة من عنيزة إلى مكة المكرمة حيث وصف وبشكل دقيق تفاصيل هذه الرحلة وطبائع الجمالين والجمال، وبين ما حصل له من مواقف في بداية دخوله لمكة المكرمة، وقد اتخذ داوتي لنفسه اسماً عربياً هو (خليل). وتشهد كتاباته على مدى تعصبه لنصرانيته التي كان يحاول أن يظهرها قدر استطاعته، حتى وهو في طريقه إلى مكة المكرمة، ولذلك فلا يُستغرب أنه قد تعرض للكثير من الإهانات ويُعدُّ كتابه (الصحراء العربية Deserta Arabian) من أفضل كتب أدب الرحلات لما تضمنه من مواد علمية مهمة كما أن له العديد من المؤلفات المهمة والتي لا تخفى على المهتمين بهذا المجال، منها كتابه: «مناجم الذهب في مدين والمدن المدينية الأثرية».
14- الإنجليزي جان فراير كين ( Gohn Fryer Keane ) وهو ابن قسيس، وتربى منذ شبابه لدى المسلمين بالهند، وقد ساعدته تسع سنوات قضاها عاملاً في البحرية الهندية على التعرف على الدين الإسلامي، ومن ثم جاءت الفرصة عندما أبحرت سفينته إلى الحجاز، فرافق أميراً هندياً، وانتحل اسم (حاج محمد أمين) ولبس وتزيا بزي النواب الهنود وقضى عدة أسابيع في مكة المكرمة عام 1877م وأعلن عن حبه لمكة المكرمة وذكر ماوقع له من طرائف ومواقف عصيبة أيضاً.
15- الهولندي كريستان سنوك هورخرونية Snouk Horgronje ، في عام 1877م قضى خمسة أشهر في قنصلية بلاده بجدة وبقي في مكة المكرمة خمسة أشهر يتعلم القرآن الكريم وتزوج بمسلمة جاوية من الحجاج، ووضع فيما بعد كتابه الشهير (مكة) والذي يتكون من جزأين، تناول فيهما تصوراته عن حال المسلمين في الجزيرة العربية وجزر الهند الشرقية، التي عاش فيها مستشارًا للشؤون الشرقية والإسلامية لمدة 17 سنة.
16- الفرنسي جرفي كورتلمون Gervais Courtellmont) )الذي قدم من الجزائر عام 1887م وكان مصوراً محترفاً وقدم إلى مكة المكرمة بعد أن شجعه عليها أصدقاؤه الجزائريون، ورغب في أن يتعرف أكثر على سلوك المسلمين وعاداتهم وتسمى بـ(الحاج عبد الغفار)، وأخذ عدة صور لمكة المكرمة والبيت الحرام بلغ عددها 34 صورة. ووصف مكة وسكانها، وقال إن الإسلام دين عظيم وبسيط، ولكنه لا يملك الجرأة الكافية لاعتناقه.
17- الانجليزي آرثر وافل (Arthur Wavell ) كان ضابطاً في الجيش البريطاني، بعد أن شارك الملازم أول وافل في حرب البوير بجنوب إفريقيا، وتوقف الحرب بقي في كينيا ومارس مهنة الزراعة، وكان معظم العمال الذين يعملون عنده من المسلمين، وكان اختلاطه بالمسلمين دافعاً قوياً ليتعرف على بلادهم وشعائرهم، لذا بدأ في تعلم اللغة السواحلية، وقرر أن يزور مكة، لا بقصد التحول للإسلام، بل من أجل أن يكتسب لقب حاج، واصطحب معه أحد أصدقائه الكينيين إلى مكة المكرمة، وكانت نقطة البداية من دمشق، وزار مكة المكرمة بعد أن ركب في قطار وسكة حديد الحجاز 1908 م حيث اشترى تذكرة قطار منها إلى المدينة المنورة بسعر ثلاث جنيهات استرلينية ونصف.
ومن المؤكد أن من زار مكة المكرمة أضعاف هؤلاء ومنهم من لم يدون مذكراته أو قضى عليه الموت في الطريق قادماً أو عائداً، ولكن الملحظ المهم أن أياً من هؤلاء رغم انكشافهم في مكة المكرمة أو المدينة المنورة إلا أنهم لم يقتلوا أو يتعرض لهم بسوء و هذا أكبر رد وأبلغ دليل على من ينعت المسلمين بالعدوانية ويصف الإسلام بالوحشية وخاصة من بعض المستشرقين، ومما يلحظ أيضاً في كتابات المستشرقين و أهل الرحلات إساءتهم لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب بل إنهم أول من أطلقوا لفظ الوهابية على الدعوة الإصلاحية، وعلى الرغم مما لقيه هؤلاء من معاملة حسنة في مكة المكرمة والمدينة المنورة وفي البلدان العربية التي مروا بها إلا أن أعينهم لا تقف إلا على المواقف السلبية ولا يتطرقون لمكارم الأخلاق الإسلامية والعربية ويكتبون بلغة استعلاء ونظرة ازدراء وقليل منهم المنصف.