د عبدالله بن أحمد الفيفي
إنَّ النصوص الداعية إلى وأد البنات صراحةً غير قليلة في التراث العربي. نقف عليها في شِعر (الفرزدق)، و(البحتري)، و(أبي العلاء المعرِّي)، وغيرهم. لكنَّنا لا نقرأ تراثنا، أو نقرؤه ولا نفهمه، أو نقرؤه ونفهمه ونعشقه بغثِّه وسمينه؛ لأننا لا نميز الخبيث منه من الطيِّب، أو لأننا - بالأحرى - ما برحنا بعقليَّات منتجيه، وإنْ تظاهرنا بخلاف ذلك. يقول أبو العلاء المعرِّي (1)، «فيلسوف الشعراء، وشاعر الفلاسفة!»:
وإنْ تُعْطَ الإناثَ، فأيُّ بُؤْسٍ
تَبيَّنَ في وُجُوْهِ مُقَسَّـماتِ!
يُرِدْنَ بُعولةً ويُردْنَ حَـلـْيًا
ويَلقينَ الخُطوبَ مُلوَّمـاتِ
ولسـنَ بدافعاتٍ يومَ حـربٍ
ولا في غارةٍ متَغَـشِّمـاتِ
ودَفْـنٌ والحوادثُ مُفْجِعـَاتٌ
لإحداهنَّ إحْدَى المَكْرُمـاتِ
وقد يفقدنَ أزواجًا كِرامًا
فيا للنِّسـوةِ المتأيـِّمـاتِ
يَلِدْنَ أعـاديًا ويكُـنَّ عـارًا
إذا أمسينَ في المتهضَّماتِ
والبيت الرابع ترديد للحديث النبوي المزعوم «دَفْنُ البَنات من المَكْرُمات»، الذي ناقشناه في المساق السابق. فهي ثقافة الأواني المستطرقة، بعضها يصبُّ غثاءه في بعض. و»فيلسوف الشعراء، وشاعر الفلاسفة» هذا إنَّما يحذو حذو أسلافه، ويأخذ عنهم. ومنهم (البحتري)، الذي وضع عنه كتابه «عبث الوليد». فالبحتري(2) هو الذي لم يمنعه موقف العزاء في ابنة (محمَّد بن حميد الطُّوسي) من أن يستنكر عليه الحُزن على وفاتها، فأخذ يعزِّيه بأنَّ «موت البنات لا يستحقّ البكاء» أصلًا، والبكاء عليهن ليس من شِيَم الفِتْيان، مستشهدًا بأسلافه من الجاهليِّين، ومنهم (قيس بن عاصم المنقري)، الذي كان يئِدُ كلَّ بنت تُولَد له، رغم ضرب العرب المثل به في الحِلْم، والقائل، وقد سُئل ما الحِلم؟: «أن تصل من قطعك، وتُعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك!»(3) بل يذهب البحتري إلى أبعد من هذا، فيستشهد تارةً بالقرآن: {المَالُ والبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} (سورة الكهف:46) - ولم يقل «المال والبنات» حسب احتجاج الفقيه البحتري - وتارةً أخرى يُشرِك الأنبياءَ في فكرته الجاهليَّة، وثالثةً يستشهد بالأسطورة - غير الإسلاميَّة - عن الخطيئة وأن حوَّاء أخرجت آدمَ من الجنَّة، حيث يقول:
أَتُبَكِّـي مَن لا يُنـازلُ بالسَّـيْـ
ـــفِ مُشِيْحًا ولا يَهُزُّ اللِّواءَ؟!
والفَـتَى مَن رأى القُبورَ لِما طـا
فَ بهِ من بنـاتـه أكـفـاءَ
لَسْـنَ مِن زينةِ الحياةِ كعـَدِّ الـ
ـــلّهِ منها الأمـوالَ والأبـناءَ
قد وَلَـدْنَ الأعداءَ قِدْمًا، ووَرَّثْـــ
ــــنَ التِّـلادَ الأقاصيَ البُعَداءَ
لم يئِـدْ كُـثْرَهُنَّ (قَـيْسُ تَميمٍ)
عـَيْـلـةً بل حَميَّـةً وإبـاءَ
وتَغَـشَّى (مُهَلْهِـلَ) الذُّلُّ فيهـــ
ـــنَّ، وقد أُعْطِيَ الأديمَ حِـباءَ
و(شـقيقُ بنُ فـاتكٍ) حَذَرَ العـا
رِ عليهِـنَّ فـارقَ الدَّهـناءَ
وعلى غيرهـنَّ أُحْـزِنَ (يعـقو
بُ) وقـد جـاءَهُ بنوهُ عِشاءَ
و(شُعَيْبٌ) من أجلهنَّ رأى الوَحْـ
ـــدَةَ ضعفـًا فاستأجرَ الأنبياءَ
واستزلَّ الشيطانُ آدمَ في الجنَّــ
ـــةِ لمـَّا أغـْرَى بهِ حـوَّاءَ
وتلـفَّتْ إلى القبائـلِ، فانظـرْ
أُمَّـهـاتٍ يُنسـبْنَ أمْ آبـاءَ
ولَعـَمْري ما العَجْـزُ عنديَ إلاَّ
أنْ تبيتَ الرِّجالُ تبكي النِّسـاءَ!
وكِلا الشاعرين، البحتري والمعرِّي، كان يتبع سنن من سبقه من الشعراء، ومنهم (الفرزدق) (4)، الذي كان بدَوره يستنُّ بسُنَّة (قيس بن عاصم)، حينما قال في وفاة امرأته، التي يفاخر بها (جريرًا):
يقولونَ زُرْ حدْراءَ، والتُّرْبُ دونها
وكيفَ بـشيءٍ وَصْـلُهُ قد تقَطَّعَا
ولستُ، وإنْ عَـزَّتْ عليَّ، بزائرٍ
تُرابًا على مرْموسَةٍ قد تَضَعْضَعَا
وأَهْوَنُ مَفقودٍ، إذا الموتُ نالـهُ
على المرْءِ مِنْ أصحابهِ مَنْ تَقَنَّعَا
يقولُ ابنُ خِنْزِيْرٍ: بكيتَ، ولم تكُنْ
على امرأةٍ عَينيْ، إخَالُ، لِتَدْمَعَا
وأَهْـوَنُ رُزْءٍ لامرئٍ غيرِ عاجـزٍ
رَزِيَّـةُ مُرْتَـجِّ الرَّوادِفِ أَفْـرَعَا
وما مـاتَ عندَ ابنِ المُراغةِ مثلُها
ولا تَبِعَـتْهُ ظاعنًا حيثُ دَعْـدَعَا
وهذا برهانُ أنَّ هؤلاء القوم ورثة القِيَم الجاهليَّة، وإنْ تسمَّوا بالإسلام. وهي ثقافةٌ ممتدَّة، أكَّدتْها لي مؤخَّرًا - فضلًا عن تلك النصوص الشِّعريَّة والنثريَّة التراثيَّة، التي ناقشتُها في كتابي «نقد القيم» - بعضُ ردود الأفعال المتشنِّجة حول قصيدتي المنشورة هنا في «الجزيرة»، تحت عنوان «داعشيَّات تراثيَّة: عمُّوريَّة أبي تمَّام نموذجًا»(5). وتلك الردود شاهدةٌ على ما في الرؤوس من حَبٍّ لم ينطحن بَعد، منذ ما قبل الإسلام حتى الآن! وكنتُ قد توقَّفتُ في معارضةٍ شِعريَّةٍ نقديَّةٍ - على غير ما درج عليه شعراء المعارضات من مجاراة الشاعر السابق عن إعجابٍ فنِّي - أمام بعض ما جاء في تلك القصيدة الشهيرة لأبي تمَّام، التي يسمِّيها المعجبون «ملحمة» - وهي كذلك بالفعل، وإنْ لم تكن ملحميَّتها بمعنى الجنس الشِّعري المعروف. كما توقَّفتُ، من بَعدُ، في معارضةٍ شِعريَّةٍ نقديَّةٍ أخرى، بعنوان «الموءودة»(6)، مع قصيدة (البحتري) المشار إليها.
(1) (1342هـ)، اللزوميات، تحقيق: أمين الخانجي (بيروت: مكتبة الهلال، القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 178.
(2) (1977)، ديوان البحتري، تحقيق: حسن كامل الصيرفي (القاهرة: دار المعارف)، 1: 40- 41.
(3) ابن عبد ربّه، (1983)، العقد الفريد، تحقيق: أحمد أمين وآخرين (بيروت: دار الكتاب العربي)، 2: 278.
(4) (1987)، ديوان الفرزدق، شرح: علي فاعور (بيروت: دار الكتب العلمية)، 364.
(5) انظر: الجزيرة، السبت 19 ربيع الأوَّل 1441هـ، ص16: http://www.al-jazirah.com/2019/20191116/cm48.htm
(6) انظر: الجزيرة، المجلَّة الثقافيَّة، السبت 24 ربيع الآخِر 1441هـ، ص9: http://www.al-jazirah.com/2019/20191221/cm40.htm