د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وتعود قيمة «السبب» في البحث العلمي إلى أنه العنصر الأهم في تكوين التحليل؛ فالتحليل يقوم على وصف الظواهر والبحث في الأسباب التي كوّنتها أو أدت إليها؛ فالسبب بصورة أخرى هو العنصر الفارق بين الدرس العلمي والحديث الإنشائي، خاصة أن قضية الصلة بين الأدب والعلم قضية مركزية في خطاب النقد في النصف الأول من القرن العشرين (في العالم العربي)، بل هي قضية مركزية في نظرية الأدب بوصف النقد يسعى إلى صبغ الأدب بصبغة العلم؛ إذ كما يقول أحد النقاد يشعر الأدب بوصفه أحد العلوم الإنسانية بالنقص تجاه العلوم الطبيعية التي يظهر فيها المنهج العلمي جلياً بخلاف العلوم الإنسانية؛ إذ من الصعب قياسها قياساً دقيقاً في موازين العلم.
وإذا افتقد البحث العلمي التحليل يكون قد افتقد عنصراً جوهرياً في تكوينه؛ فمن خلاله يمكن الكشف عن الظواهر الأدبية، وعن طريقتها وبنيتها؛ إذ يتحول إلى وصف مجرد عاجز عن الغوص إلى باطن الحقائق وفهمها ومعرفة حقيقتها. ولا يمكن تأسيس كتابة علمية ذات قيمة عالية إذا لم تأخذ حظاً وافراً من التحليل.
وكلما ازداد عمق التحليل، وتماسكه العلمي المبني على وصف الظواهر وصفاً دقيقاً، والكشف عن مكوناتها المختلفة، وربطها بأسبابها المقنعة المنطقية، ازدادت قيمته العلمية، وأصبح خطاباً علمياً صحيحاً.
صحيح أن السرد جزءٌ مهم في الكتابة التاريخية بوجه عام؛ فهو يقوم على سرد الأحداث الواقعة بزمن معين الذي يمثل تاريخ الأدب جزءاً منه، لكن عندما يكون الحديث عن كتابة علمية فإننا ينبغي أن نفرق بين عنصرين اثنين: الأول المادة العلمية التي تتكون منها الكتابة، وهي مادة علمية تنضبط بضوابط العلم، وتخضع لشروطه، والثانية طريقة تقديم هذه المادة، وهي الكتابة التاريخية؛ إذ يمثل السرد جزءاً منها، ولكنه ليس كل شيء؛ فهناك الشواهد، والإحصاءات، وهناك الوثائق وغيرها مما يكوّن الكتابة في تاريخ الأدب أو التاريخ بوجه عام.
إضافة إلى اللغة العلمية التي ينبغي أن تكون المستعملة في هذه الكتابة، وما تتسم به من دقة في التعبير، والتوصيف، والبُعد عن الألفاظ الإنشائية أو ذات الإيحاءات المختلفة الفضفاضة حتى تبتعد عن الذاتية، وتتمكن من تحقيق الموضوعية التي تعبر عن الظاهرة متجردة من كل موقف آخر.
والمشكلة أننا حين نعود إلى سلسلة شوقي ضيف نجد أن التحليل يكاد يكون غائباً كما قلت من قبل، وأغلبه محصور في العلل التي ينثرها هنا وهناك لبيان قيمة الظواهر الفنية وتسويغها للقارئ. وأما الأسئلة التي تمثل عماد الحفر المعرفي، ويمثل التحليل إجابة عنها، فهي غائبة منه، وليس لها أدنى حضور.
وهذا يعني بدوره أيضاً انعدام النتائج التي يصل إليها القول بانعدام القضايا المطروحة، وانعدام مقدماتها، واعتماده على إصدار الأحكام والتعليل لها، أو الاستشهاد عليها مباشرة كما هو منهج الطريقة التقليدية في الكتابة، فيقول في الحديث عن أبي تمام: «وهو كثير الحكم في مدائحه، وقد صب فيها كثيراً من شكوى الزمن وخطوبه» في التعليق على شواهد من شعره بوصفها استطراداً دون أن يكون لهذه القضية ذكر سابق أو لاحق بقدر ما هي أحكام عامة، استنبطها من خبرته الشخصية من شعر أبي تمام.
ويقول في موضع آخر في الحديث عن المدح: «وعلى هذا النحو ازدهرت المدحة على لسان الشاعر العباسي لا بما رسم فيها من مثاليتنا الخلقية وسجل من الأحداث.. بل أيضاً بما تمثل من العناصر القديمة، وأذاع فيها من ملكاته، وما أضاف إليها من عناصر جديدة».
فهذه الأحكام جاءت في التعليق على أحد شواهد شعره، وكأنها استنباط، عمم بعده الحكم على كل شعراء العصر العباسي، دون أن يكون الحديث في أساسه عن المديح، أو إجابة لسؤال حول مكونات قصيدة المدح، بقدر ما هو استطراد في الحديث عن شيوع الحكمة في شعر العصر العباسي بعد الحديث عن خروج الشاعر العباسي عن المقدمة الطللية إلى موضوعات أخرى.
ومثل التحليل نجد الألفاظ المستعملة مما تحدثت عنه سابقاً، ويضاف إلى ذلك البعد الإيحائي الذي تمتلئ به، وتحمله، إضافة إلى البعد الحماسي فيها، وكأنه يصور معركة أمامه، يتخذ موقفاً منها، ويدفع الناس إليها، كقوله في الحديث عن الرثاء: «وكان يحدث أن يخر البطل صريعاً في بعض الميادين، حينئذ ينظم فيه الشعراء مراثي حماسية، تؤجج لهيب الحفيظة في القلوب، وتدفع إلى الاستشهاد تحت ظلال الرماح ذباً عن حرمات الوطن».
فبعيداً عما ذكرته من قبل عن الألفاظ، فإن اللغة هنا لا يمكن أن توصف بالعلمية، أو أنها تقدم الظاهرة بموضوعية، أو حتى أنها تشي بموقف الكاتب مما ينقل وشياً بل هي تتجاوز ذلك كله لتتحول إلى لغة تعبوية تتجاوز الأدب والشعر الذي يتحدث عنه، والمرحلة التاريخية التي يقص خبرها إلى إنتاج خطاب تعبوي يقوم بإسقاط القضايا المعاصرة على القضايا التاريخية، وتمرير مواقف حديثة على حساب المواقف التاريخية، وهو ما لا يعد في أهداف كتابة تاريخ الأدب كتابة علمية.