ترجع معرفتي بأبي هيثم إلى أوائل سنين العمل؛ في لقاء جمع بعض الزملاء. فعرفته منذ ذلك اليوم الإنسان الهادئ المنخفض الصوت؛ لكنه صاحب الجهد العلمي والعملي، الذي لا يكل ولا يمل؛ المخلص لهدفه إلى درجة التفاني، والانقطاع له.
وقد تطورت معرفتي به، وجمع كريم من زملاء الكتابة المخلصين لاهتمامهم العلمي والأدبي؛ لكن على الرغم من جدية من عرفت منذ تلك الفترة؛ إلا أنني لم أعرف غير خالد اليوسف في تفانيه لصناعته البيبلوغرافية، وهوايته السردية. فكلنا معشر أصدقائه نكتب في السرد تارة، ونستريح إلى درجة النوم تارات، ونكتب في النقد فتصيبنا سنة من الاسترخاء قد تطول. أما عند التأليف فنمكث السنوات حتى ننجز ما نعمل عليه. لكن أبا هيثم ما كان يستريح له جفن؛ فهو دائم العمل، حريص على الإنجاز، مخلص لمهنته الرصدية التي اتخذها منهجاً علمياً له، معنياً بتجويد هوايته الأدبية. لهذا فهو لا ينهي مشروعاً تأليفياً إلا ليبدأ في آخر. حتى أن المتابع له يكل ذهنه عن ملاحقة منجزه العلمي. ولم يكن ذلك الإنجاز الحثيث لتفرغ علمي حظي به، أو فراغ لديه، ولكن لعزيمة حاسمة لديه، لا يقف أمامها شيء يثنيه عن تحقيق مشروعه الثقافي. في حين أننا لم نستطع إعطاء أعمالنا حقها من الوقت والتفاني الذي قدمه أبو هيثم. لهذا بلغت أعماله الكتابية أكثر من أربعين كتاباً ما بين القصة القصية والرواية والدراسة والبحث والتاريخ الأدبي والبيبلوغرافي.
كذلك فمنذ عرفت الصديق أبا هيثم عرفت فيه حرصاً على تأليف الأصدقاء وجمعهم على بساط المحبة، وهذا طبع أصيل فيه؛ لم نستطع كذلك - نحن معشر أصدقائه - مجاراته في هذا المنحى. فنحن تلهينا شواغل الحياة، ومشاغل الأهل والأولاد. لكن أبا هيثم كان يحرص على انتظام لقائنا؛ لا يشغله عن ذلك شاغل، بل يعنى بالتنظيم والمتابعة، وتذكير الغافل منا. فكان خير أمين للقاءاتنا التي لا ينساها، ولا ينسى مواعيدها، حتى لو غفلنا عنها.
بقي أمر يخصني لوحدي، فيما أظن؛ ويتمثل ذلك في أنني أعتب على نفسي حرصي على اقتناء الكتب، مع عدم إعطائها حقها من القراءة، وكان ذلك ينغص علي؛ إلى أن وجدت أبا هيثم يهون علي، بما يقتنيه في مكتبته الحافلة بآلاف الكتب والمجلات التي لا يجاريه أحد منا فيما يقتنيه. مما تأكد لي أن شغف اقتناء الكتب أمر جبلنا عليه؛ سواء أقرأناها أم لم نقرأها؛ لكنه شغف فيه من المتعة التي يطلبها الإنسان، مما يجعله منحة إلهية سامية، على المرء أن يشكر الله عليها.
إن الحديث عن منجز أبي هيثم السرد في السرد والبيبلوغرافيا، ليس مكانه هذا الحديث العجالة؛ بل مكانه الدراسة المختصة. ولهذا قصرت حديثي عن الصديق أبي هيثم على الانطباعات الشخصية الإنسانية؛ من خلال معرفتي به في عشرة عمر، تصل إلى ما يقارب الأربعين عاماً؛ فإن لم يكن في هذه السطور شيء من الجانب العلمي؛ ففيها شيء من روح المحبة، وعطر العمر الذي جمعنا.