دأب معلم اللغة العربية في ثانوية عنيزة، الأستاذ الشاعر إبراهيم بن عبد العزيز الفوزان على انتخاب مجموعة صغيرة من الطلاب، الذين يتوسم فيهم حب الأدب، والرغبة في القراءة والاطلاع، فيجتمع بهم، وينظم لهم الزيارات الثقافية، لأدباء المنطقة، ومثقفيها، وشعرائها، ولمؤسساتها الثقافية، فزارت هذه المجموعة عامي 1414- 1415هـ عددًا من الأعلام، أمثال د. حسن الهويمل، والشاعر إبراهيم الدامغ، ود. مصطفى بكري السيد.
كانت ذاكرة الفتوة المتوقدة، المتطلعة للمستقبل، تسجل ما يدور بتلك اللقاءات تسجيلاً دقيقًا، لا يُغفِل التفاصيل، ولا يهمل المشاعر المصاحبة، والانطباعات الآنية، حتى النظرات والحركات والالتفاتات.. كيف لا وهم ينظرون إلى مستقبلهم الذي يخططون له، ورموزهم الذين سيجلسون أمامهم، أو يدرسون نصوصهم، أو يتعاملون مع كبتهم وأفكارهم.
كان صاحبكم واحدًا من هذه المجموعة، وكان اجتماعهم بالدكتور مصطفى بكري السيد في بيته في عنيزة أول لقاء بينهما، لفت نظر صاحبكم بشاشته وترحيبه، وقد عمد الأستاذ إبراهيم الفوزان إلى تعريفه بكل فرد من أفراد المجموعة، لم يكن تعريفًا مقتصرًا على الاسم، بل يعقبه بذكر أبرز الاهتمامات.. لما وصل إلى صاحبكم ليعرف به ذكر مما ذكر أن له عناية بنظم الشعر... ولما عرف زميلاً آخر قال في معرض تعريفه به: شاعر وابن شاعر! فالتقطها صاحبكم ليعرف قدر شعره أمام شعر زميله في نظر معلمه، الذي كان حريصًا على التشجيع والتحفيز، متنائيًا عمّا يشعر بالإحباط من نقد جارح، أو مفاضلة بين الأقران.
لم يعر د. مصطفى هذه التعريفات عناية، وإنما انطلق في حديث مسترسل، لا ينظر في وجه واحد من المجموعة دون غيره، مكثرًا من الاستشهادات بأقوال الأعلام، من علماء الإسلام وغيرهم، لقد تعجب صاحبكم وزملاؤه من هذه الذاكرة التي تحفظ هذا المقدار من الأسماء وأقوالها.
التحق صاحبكم بالجامعة، في كلية العلوم العربية والاجتماعية، فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم، فكان د. مصطفى أحد أساتذته، في المستويات العليا، درسهم الأدب المقارن، والنصوص، فلا تزال قصيدة الزركلي (العين بعد فراقها الوطنا) عالقة في ذهنه، بشرح أستاذه، كأنه يراه وهو يتردد في منصة القاعة الدراسية، من طرف إلى طرف، بحماسة ونشاط، وحركات خفيفة، وخطى متزنة، تجمع بين المهابة والأريحية، والطرافة والجد.
لقد كان درس د.مصطفى -رحمه الله- مفيدًا في بابه، ومفيدًا من باب آخر، حيث الاحترام والأدب، والحرص على مقدار لا يتنازل عنه من تقدير العلم، وتوقير أهله، وربما وقف ولم يكمل المحاضرة بسبب تصرف فرط عن خطأ، أو حركة ندَّت عن عبث.
كانت المحاضرة مليئة بالمعلومات، وعلى كثرتها وتنوعها، فلم يكن عسيرًا في معاملته، أو معجزًا في أسئلته، ولم يُعهد منه تعدٍّ أو ظلم، ولم يُعرف عنه محاباة أو تزلف، ولم يُرم تصحيحه وتقديره لاختبارات طلابه باتهام، أو ادعاء مظلمة.
انقضت أيام الجامعة، فتوثقت علاقة صاحبكم بأستاذه أكثر، وتعددت قنوات الاتصال، فقد تمتع د. مصطفى -رحمه الله- بعلاقة وثيقة مع أطياف المجتمع، ولما أدت الإجراءات النظامية إلى عدم تجديد التعاقد معه في جامعة الإمام محمد بن سعود تلقفته مباشرة جامعة الملك سعود، ممثلة بفرعها في القصيم، هيّأ ذلك له سمعة حسنة، وعلاقات واسعة وثيقة، ومكانة علمية في تخصصه، فدرس سنوات في كلية الطب، ثم لما صدر الأمر الملكي بإنشاء جامعة القصيم عاد إلى قسمه الأول، قسم اللغة العربية وآدابها، فأكمل مسيرته فيه.
لقد وجد صاحبكم في مجالسته في مجالس خاصةذ وعامة، سعة الثقافة والاطلاع، وجرأة محمودة، فلم يقيد نفسه بقيود التصنيف أو حدود التمظهر والتكلف، غير ما يفرضه عليه تديُّنه الذي نحسبُه صادقًا، كانت حواراته بابًا لفهم التاريخ والسياسة والفلسلفة، وطبيعة التعايش والعلاقات الإنسانية، والعادات والأعراف، حتى الفن وتذوقه، فأدرك صاحبكم (نظريًّا) الفرق بين صوت (فيروز) صِرفًا أو مطعمًا بـ(نصري شمس الدين)!
وفي عام 1432هـ كلف صاحبكم برئاسة قسم اللغة العربية، فكان أستاذه د. مصطفى خير معين له، برأيه وعمله، وتعاونه، وكان من أول قرارات الرئيس الجديد تكليفه إياه بتدريس طلاب الدراسات العليا، فهو من أجدر الأساتذة، تعاملاً وعلمًا، ومرتبة علمية، ولكن هذا القرار لم يمر سهلاً على من كان مكلفًا من قبل، فاجتمع بصاحبكم، وطلب لقاءً مغلقًا، ثم جعل يذكر من حرصه وعلمه، وتعامله الحسن وخصوصًا مع (الطالبات)! وشهاداته وخبراته، وصاحبكم مطرق مستمع، يعد له إجابة، ولما ملَّ من مدحه لنفسه، صار يفكر في أشياء أخرى، فلما انتهى من كلامه، بعد أن ردده مرارًا، اكتفي صاحبكم بأن قال له: إنت متميز يا دكتور، ولكن ثمَّ متميزون آخرون. وانتهى اللقاء!
لقد أبلى د. مصطفى -رحمه الله- بلاء حسنًا في تدريس طلاب الدراسات العليا، وفي الإشراف عليهم، وكان يبذل جهدًا منقطع النظير في خدمة الطلاب، وفي السعي في إجراءات تسجيلهم، فجزاه الله عمّا بذل لهم خير الجزاء.
سنوات تدريسه الممتدة في الجامعة حملت معها كثيرًا من التغيير، ومن ذلك أمور متصلة بالجوانب المادية، ولكن د. مصطفى ظل محافظًا على قناعاته ومبادئه، ومنها حرصه الشديد على الاحترام والأدب بين الطالب ومعلمه داخل القاعة الدراسية وخارجها، لم يتنازل عن ذلك مهما كان الثمن، وإن كان شيئًا من المال، الذي يتلهف الناس إلى لُعاعة منه أي تلهُّف، فكانت الساعات الزائدة مغنمًا يُحرص عليه، وفي ذات فصل، كلف بساعات زائدة في إحدى الكليات، فلم يُطق التدريس فيها، وطلب من صاحبكم أن يعفيه من هذه الساعات، متنازلاً عنها، غير طالبٍ تعويضًا، فقد رأى إهانة جناب العلم، والاستخفاف بمكانه وزمانه، شائعًا بين طلاب تلك الكلية!
رحم الله أستاذنا، أحب هذه البلد وأحبته، قضى فيها نصف قرن، ولما أيقن أن الارتحال عنها حان أوانه اغتم لذلك أيما غم، حتى إذا لم يبق على الارتحال إلا أيام قلائل، شاء الله الا يرتحل، وأن يبقى فيها...
إلى الحشرِ إِذ يَلقَى الأخير المقدَّمَا.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم