استقر علم النفس الاجتماعي على أن ظاهرة الفرد المضطرب نفسياً تعبِّر عن أسرة مضطربة نفسياً؛ فالفرد الذي يعاني من مشكلة نفسية هو انعكاس لمشكلة داخل الأسرة، عبرت عن نفسها في مرض أحد أعضائها. فكما أن ارتفاع درجة حرارة الجسم يعبّر عن مرض داخل أحد أجهزة الجسم فاضطراب الفرد النفسي هو تعبير عن اضطراب أكبر داخل الأسرة، أفصح عن نفسه من خلال مرض أحد أعضائها.
ويوضح د. علاء كفافي في كتابه «الإرشاد النفسي الأسري» أنه من أجل فهم الشخص المريض نفسيًّا لا بد من فهم الأسرة التي أنتجت هذا المريض. وبالمنطق نفسه، فإن علاج الفرد المضطرب نفسيًّا لن ينجح إلا بعلاج البيئة التي أنتجت هذا المرض؛ لأن المرض سيستمر ما استمرت الأسباب المنتجة له. ويري العديد من علماء النفس أن هناك بعض الأُسر التي اصطُلح على تسميتها «الأسر المولدة للمرض النفسي» Pathogenic Family؛ فالأب غير الكفء - مثلاً - يسهم بدور كبير في اضطراب الابن نفسياً، كما أن العلاقات بين الإخوة تمثل عاملاً باثولوجيًّا في نمو مرض عضو الأسرة المريض. كما اتضح للباحثين أن المريض نفسه ليس سلبيًّا تجاه مرضه بل يسهم في نمو مرضه من خلال اتجاهه برغبة لا شعورية أحياناً في اختيار سلوك يعمق من تطور المرض.
وتتسم الأسر المولدة للمرض بخصائص عدة، يأتي في أولها المناخ العام السائد في الأسرة؛ إذ تنتشر القيم الآتية:
1 - اللاأنسنة Dehumanization:
واللاأنسنة هو مصطلح فلسفي، غزا العلوم الاجتماعية، وأصبح متداولاً في كثير منها. فاللاأنسنة هي نزع صفات الإنسان عن الإنسان. وبمعنى آخر هي تجريد الإنسان مما يميزه من خصائص بشرية، والتعامل معه كـ»شيء». ومن هنا تصبح اللاأنسنة مرادف مقارب للتشيؤ؛ إذ يتم رد الإنسان إلى صفاته الطبيعية المادية التي يشترك فيها مع غيره من الكائنات. وفي سياق علم نفس الأسرة تعتبر اللاأنسنة مرادفًا للاغتراب؛ إذ يرى الفرد نفسه في الأسرة غريباً عن محيطه، أو أنه أقرب لمن يقيم في فندق، أو في وسيلة مواصلات، سيغادرها سريعًا، ولا يوجد رابط يدفعه هو أو المحيطين به إلى التواصل أو التراحم أو التآلف. وتبرز خطورة اللاأنسنة في أنها حينما تمارَس على الطفل صغيرًا يختزنها عقله، وينتجها في شكل سلوك مضطرب في حياته الراشدة. فعلي سبيل المثال: قد تطوِّر الأم التي عانت تمييز الأخت الكبيرة، وتفضيلها عليها وهي صغيرة، سلوكًا تمييزًا تجاه ابنتها الكبرى؛ وتفضل ابنتها الصغرى عليها بشكل واعٍ أو لا واعٍ. كما أن الأم نفسها التي عانت بسبب تمييز أختها الجميلة عليها قد تتحيز سلباً تجاه ابنتها الجميلة، أو تشعر بعدم ارتياح تجاهها مدفوعة في ذلك إلى إحساسها بالإهمال في مرحلة الطفولة، وانصراف الجميع عنها إلى تدليل وتفضيل الأخت الجميلة.
2 - الحب المصطنع للطفل
يحدد عالم النفس لانج Laing أن البيئة المثالية لنمو مثل ذلك الشعور هو عندما يتزوج أحد الشباب غير الناضجين عاطفيًّا من فتاة متوقعاً منها أن تُكمل جوانب النقص الانفعالي في شخصيته، وعندما تكون الفتاة المتقدِّم إليها الشاب تعاني النقص الانفعالي نفسه، ولديها قدر كبير من الاعتمادية الطفلية، وتظن أنها بزواجها ستجد الشاب الذي يعوضها نقصها الانفعالي، إذا أُتيح لهذين النموذجَين أن يتزوجا، فإن تفاعل الأب والأم مع الابن سيكون تجسيدًا لمشكلة الحب المصطنع للطفل؛ إذ يبدو شكلاً أن ما يفعله الوالدان هو نتاج حبهما للطفل، ولكن في حقيقة الأمر يكون هذا الحب استغلالاً لمشاعر الطفل؛ وهو ما يجعل الطفل لاشعوريًّا يطوِّر ما يسميه علماء النفس Double Bind أو الرابطة المزدوجة التي تبدو في مظهرها حبًّا، وهي في حقيقتها تلاعب بمشاعر الطفل؛ حيث إنه حب مصطنع أو مشروط أو غير نقي.
3 - المثلث غير السوي Perverse Triangle
ويُقصد بالمثلث غير السوي قيام اثنين من أفراد الأسرة (من أجيال مختلفة) بالتحالف ضد فرد ثالث cross-generational coalition؛ ففي كثير من الحالات التي ينعدم فيها التواصل والتراحم بين كلا الزوجين يقوم أحدهما بالتحالف مع الابن أو الابنة ضد الطرف الآخر. وقد يكون هذا التحالف في شكل (أب - ابن) ضد أُم، أو (أُم - ابنة) ضد أب؛ ويصبح البيت الأسري في حالة تناحر خفي، بل يقابل الفريق المتحالِف أي شكوك ضده بالإنكار، وبنفي أي تكتل تجاه الفرد الآخر (الذي قد يكون أبًا أو أُمًّا). ويوضح بوين Bowen، أحد الرواد في علاج طب الأسرة، أن الطفل يصبح حلقة صراع بين والدَيْن متحاربَيْن، وأن عليه أن يتسامح مع كليهما، وأن يقدر مدى توتر العلاقات بينهما؛ ولذلك يسقط هذا الطفل صريعاً للمرض النفسي نظراً لاستهلاك واستنزاف طاقته الانفعالية.
** **
د. عصام حجازي - دكتوراه في الأدب المقارن
essamhegazy38@gmail.com