د. عبدالحق عزوزي
انضمت نقابات قطاع النقل في فرنسا إلى حركة «السترات الصفراء» التي تتهم الرئيس ماكرون بالانحياز للنخب على حساب الشعب وأبناء الأرياف والقرى. وتبحث النقابات عن سبل لتحفيز حركتها التي أخذت في التراجع، بحيث انخفضت نسبة العمال المضربين في شركة السكك الحديد الوطنية إلى أقل من خمسة بالمئة الجمعة.
ولم يكن هناك ما يشير إلى إنهاء الإضراب في أوبرا باريس التي فقدت 14 مليون يورو (15 مليون دولار) مع إلغاء 67 عرضًا. وقدمت أوركسترا أوبرا باريس السبت مقاطع من كارمن وغيرها من الأعمال إلى الباريسيين والسائحين على درجات قصر غارنييه لإظهار الدعم للإضراب. وأنهت الأوركسترا عرضها بالنشيد الوطني الفرنسي، وهتف أنصار الاحتجاجات «يحيا الإضراب».
وصرخ شبان يضعون أقنعة «ثورة» في ساحة الباستيل التي انطلقت منها الثورة الفرنسية عام 1789. وهتف المتظاهرون «الشوارع لنا»، و»ماكرون نحن آتون إليك، في منزلك». ويندرج التحرك في إطار المظاهرات الأسبوعية التي تجريها الحركة كل يوم سبت منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، والتي زاد زحمها مؤخرًا بعدما انضم إليها معارضو مشروع إصلاح أنظمة التقاعد.
ما يقع اليوم في فرنسا منذر بفقدان الثقة داخل المجتمع الفرنسي، وغيره من المجتمعات في أوروبا وأمريكا الجنوبية وآسيا وفي بعض بلدان الوطن العربي؛ وبمعنى آخر فإن العالم اليوم يعيش أصعب فتراته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ ويقتضي هذا حسب تحليل العديد من الاستراتيجيين زرع الثقة، لأن على الجميع أن يعمل في إطار المؤسسات وفي إطار الدولة الأم ومحاولة الإصلاح من الداخل بعقلية جديدة وبأفكار متنورة جديرة بالمحافظة على القشرة الحساسة الحامية لهبة الدولة ولمبدأ ديمومة المؤسسات... فمحدد النجاح أو الفشل هو الثقة، الذي يجب أن يغرس ويسقى بماء الذهب في المجتمع وبين المؤسسات بكل أنواعها...
عندما أتحدث مع زملائي في فرنسا ما يقع حقيقة في بلدهم، جلهم يسر إلي بأن مجتمعهم فاقد للثقة وبأنه ينبغي على الجميع حسن الظن بالمؤسسات والأفراد وترك زرع بذور الشك المستمر في أذهان الناس وعقولهم احتياطًا من الريبة والسخط وأمارات التوتر والنفور بل الوصول إلى حد الانهيار الاقتصادي بل والسياسي المخيفين؛ فالشك مخالف لأدنى شروط العقل والتعقل ومورث للريبة داخل المجتمع ومقوض لأسس تجذير السلم داخل المجتمع، وتصبح قشرة الدولة الحامية مفقودة وسورة الغلب من الكاسر ممنوعة وشارة الغلب معدومة فترتفع وتيرة المنازعة داخل المجتمع وينتبذ الناس الدولة وأتباعها...
ويقيني أنه ما يقع في بعض الأحيان من تذمر خاصة في المجتمعات الغربية مثل فرنسا، مرده إلى سوء الفهم، وإلى عدم قدرة الفاعلين داخل المجال السياسي العام من تمرير المعلومات والحقائق الاقتصادية إلى الشارع، وهو ما جرى في فرنسا عندما بدأت المظاهرات ضد قانون التقاعد قبل أن تعلن عنه الحكومة!
البروفيسور جيجوش دابليو كوودكو Grzegorg W. Kolodko هو خبير مرموق في شؤون السياسة والاقتصاد، فسر مفاهيم علم الاقتصاد الصعبة أفضل تفسير باستخدام كلمات بسيطة ومعبرة؛ ويفترض أن يصف علماء الاقتصاد ما يجري. وأفضل هؤلاء العلماء يعرفون ما يحدث وبإمكانهم إقناعنا؛ لأن المشاكل تطرأ عندما:
- يكونون على علم بما يحدث، لكنهم لا يستطيعون إقناعنا.
- أو لا يعلمون، ولكنهم يحاولون إقناعنا على أي حال.
- أو يعلمون أن حقيقة الأمور تختلف كما يحاولون إقناعنا بها.
في الحالة الأولى لا يسعنا إلا أن نحاول مساعدتهم في توصيل الرسالة؛ ورغم ظاهر الأمر، ليست تلك بالمهمة السهلة، فالجهود في هذا الاتجاه بحاجة إلى دعم المؤلفات والبرامج المعرفية، والتعليم ووسائل الإعلام المستقلة وغير ذلك.
وفي الحالة الثانية، عندما لا يعلم هؤلاء الأشخاص كيف تجري الأمور فعليًا ومع ذلك يحاولون إقناعنا بمفهوم مهم، يكونون على خطأ بيِّن؛ ومن الضروري عندئذ أن نناقشهم بهدوء وأن نعير اهتمامنا للرأي الآخر، لأن كل شخص من الممكن أن يكون على خطأ...
عندما زار ألبيرت أينشتاين الولايات المتحدة للمرة الثانية سنة 1931، قبل أن يستقر هناك لاحقًا بعد عام واحد، طلب أن ينال فرصة مقابلة رمز عظيم اَخر من رموز القرن العشرين هو تشارلي شابلين. وبعد عرض لرائعته «أضواء المدينة» صفق الجمهور لكلا الرجلين العظيمين، وقال شابلين: «إنهم يحيونني لأنهم جميعا يفهمونني، ويحيونك لأن أحدا منهم لا يفهمك»...