رمضان جريدي العنزي
كثيرًا من الناس بعيدون عن تفعيل العقل والمنطق، والبحث عن الحق والحقيقة، وبعضهم من الحماسة الجارفة ينسى نفسه، يطير مع العجة، ويفقد عقله وصوابه، ويمارس على الناس البغي والتلفيق والمكيدة على هواه ومزاجه، ويردد كلام اللغو الذي لا طائل تحته، ولا حاصل وراءه، وفق هذيان يقتل الوقت دون أن يضيف إلى العقل والقلب زادًا جديدًا، ولا معرفة مفيدة، سوى إفساد الحس واللسان. نعم انقلبت الموازين، واختلت المعايير، وشُوهت المفاهيم، والتبست معيارية الحق على الكثير؛ فاختلط الحابل بالنابل، واتسعت الكوميديا السوداء. البعض لا يحاول تجنب هزل الكلام، ولا يحبس لسانه عن رديء المقالة، ولا عن عثرة اللسان وزلته، ولا يعرض عن اللغو، بل يخالط أهله، ويعاشرهم. لا يحلل الأمر والحدث والواقع بهدوء الواثق الثابت، لا بفهم عميق، ولا بتفهم مشروع، ولا دليل قاطع. إن اتهام الناس جزافًا، وممارسة الكذب عليهم، عملية محفوفة بالعديد من المحاذير الشرعية والقانونية والأخلاقية، فضلاً عن أنها ليست مستساغة بالمعايير الإنسانية والاجتماعية. إن اتهام الأبرياء والكيد لهم بحاجة لدليل قاطع، بينما البراءة لا تحتاج إلى دليل خاص؛ لأنها هي الأصل. والذين يتهمون الناس يوجهون الاتهام بيُسر وسهولة، ولا ينطلقون في ذلك من منطلق سليم، بل من منطلق العوج والقصور، وقد يفتعلون قضايا كيدية، لا تمت بالحقيقة والواقع بصلة، بل ينسون ويتناسون أن الظلم عاقبته وخيمة وشديدة المرارة.. هؤلاء لا يعرفون عشق الحقيقة، ولا يتوافقون مع مبادئها؛ لأنهم أصحاب نزعة وهوى، وعندهم اضطراب أخلاقي كبير، يهمشون ويقصون وينبذون. إن عشق الحقيقة يعني النقاء والطهارة والبياض، وبغضها يعني الفساد والعتمة والسواد، لكن حينما يعشش البغض في الروح، ويطفو الفكر الطائش، تغيب الحقيقة، وتعوج السليقة، وتمسخ المفاهيم، ويُتلاعب بالمبادئ، وتترنح الثوابت والمسلَّمات. إن الإسلام ينبذ الاتهام جزافًا، والكذب كيدًا من غير دليل قطعي، بل جعله من الآثام والذنوب الكبيرة. قال تعالى {ولا يَحيْقُ المكْرُ السَّيِّئُ إلا بأَهْلِه}.
إن هناك من أصبح مثل الفيروس، يحترف الكذب واللغو والزيف بكل صلافة ووقاحة، بل يتباهى به ويماري، ويترك الحقيقة البائنة الناصعة. إن «الإمعة» والركض مع الكل دون تمحيص وتدقيق يعني فساد التفكير وتعطيل العقل. إن الذين يعمدون إلى التلفيق دون هوادة ما عندهم رحمة ولا شفقة ولا حس إنساني، ولا يشعرون بمشاعر جياشة؛ أحاسيسهم ليست نبيلة، وأخلاقهم ليست عالية.. يعشقون الغش والاحتيال، ويكذبون على الآخرين، ويستخفون عقولهم.. يسبحون في بحر الدجل، ويبعدون كثيرًا عن الواقع والوقائع.. يهدمون ولا يبنون. إن أصحاب الكيد لا يتعايشون مع الآخرين بمحبة وسلام، ولا يبصرون الحال والواقع، وتفور نفوسهم خبثًا كما يفور التنور.. يخططون ويمكرون، ولا يبالون بالعواقب والنهايات، ولا يتعظون بأن كيدهم سيرتد إلى نحورهم، وينسحب عليهم في نهاية المطاف، قال الشاعر:
قضى الله أن البغي يقتل أهله
وأن على الباغي تدور الدوائرُ
ومن يحتفر بئرًا ليوقع غيره
سيُدفع في البئر التي هو حافرُ
إن الفاشلين وحدهم هم من يمارسون الكيد والمكيدة وفق طرق ملتوية وغير مشروعة محاولةً منهم لإيقاف زحف الناجحين والنابهين والمتميزين. دافعهم في ذلك أمراض نفسية، وقلوب مليئة بالحقد والسواد، وبضاعة سيئة رديئة، لكنهم دائمًا في شقاء وتعب، وسيلقون الخسران المبين.