أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: ذهب مؤلف كتاب (فواتح الرَّحموت)، وغيره: إلى أن قول القائل: (رأيت أسدًا يحمل السلاح): ليس خبرًا عن الأسد الحيوان المفترِس؛ فيكون الكلام كذبًا؛ وإنما الخبر يتعلق بتأصيل اللغة حول رجل شجاع؛ وليس الخبر عن حيوان مفترس؛ ولو كابر مكابرٌ فقال: بل في هذا كذب: لقيل له: هذا النوع من الكذب مشروع؛ لأن عليه بناء لغة العرب؛ لأنه أسلوب تعبير، وليس مدلول أسلوب، والشرع جاء بلغة العرب؛ وإنما المخبر عنه بأسلوب حقيقي أو مجازي، فهذا لا يكون كذبًا البتة، لأن الشرع منزَّهٌ عن الكذب في صحة الأخبار ومعقولية الإنشاءات، ومن شُبَه نُفاةِ المجاز: الفراق من إطلاق اسم متجوز على الله.
قال أبو عبدالرحمن: لا يمتنع ذلك وصفًا لا تسمية؛ فالله سبحانه وتعالى يوصف بما يفعله، فيوصف بالغضب والرضا والنزول والمحبة وهندسة الكون، وإذا جاء كلامه بأنه تجوَّز واستعار.. لا محذور في ذلك؛ لأن الله يخاطبنا بأسلوب لغة العرب، والعربي يتجوزُ ويستعير ويُكني؛ وإنما المحذور وصف الله بشيء لم يقم دليل على أنه فعله، أو قام الدليل على أنه تنزه عنه.. وإنما المحذور أيضًا جعل الوصف اسمًا لله سبحانه وتعالى ثابتًا يدعى به وتضاف إليه العبودية؛ لأن أسماء الله سبحانه وتعالى على التوقيف، ومن شُبَه نفاةِ المجاز أن المتجوز لا يحول عن الحقيقة إلا إذا ضاقت به المنادِح فيلجأ إلى المجاز، والله سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن ضيق المنادح.. ذكر هذه الشُّبَه (الزركشي) في كتابه (البرهان) وغيره.
قال أبو عبدالرحمن: دعوى ضيق المنادح ممنوعة هاهنا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يرد للعرب إبداع لغة جديدة؛ وإنما خاطبهم ربهم بلغتهم كما هي في منادحها سعةً وضيقًا، إلا أنه سبحانه وتعالى ميَّز كلامه بأنه أرقى تعبيرًا لا تسمق إليه حيلة بليغ، وهكذا عندما يكلف ربنا عباده بعزائم الأمور يجعل الوسيلة جهودهم البشريةَ المحدودة، ولو أراد الله سبحانه وتعالى إمضاء مراده بغير جهدهم لفعل.
قال أبو عبدالرحمن: وتمتنعُ أيضًا دعوى أن التعبير بالمجاز ضيقُ عطن؛ بل التعبير بالمجاز هو الأكثر الأكثر في لغة العرب، وهو الأسلوب الجمالي الأرقى الذي يتسابق إليه أئمة البيان، ومن شُبَه نُفاةٍ المجاز أن التعبير بالمجاز اصطلاح حادث ليس في لغة الشرع، ولا في كلام الصحابة.
قال أبو عبدالرحمن: ههنا اصطلاح، ومعنى اصطلاح، أما الاصطلاح فلا يمتنع إطلاقه ولو كان حادثًا إلا إذا تضمن محذورًا؛ ولهذا دعوتُ في بعض كتيباتي إلى التعبير ببلوغ الغاية دون صيغ المبالغة إذا تعلق الاصطلاح بالله سبحانه وتعالى في صفاته وأخباره، ولا محذور في استعمالنا لاصطلاح المجاز، وأما معنى الاصطلاح فالخلاف كائن، وعدم ورود الاصطلاح بالمجاز في نصوص الشرع وكلام العرب في الجاهلية لا يعني أن معناه غير وارد في كلام الشرع واللغة، ولو كان ذلك صحيحًا لكان معنى الفاعل والمفعول به في النحو، ومعنى المطلق والمقيد في الأصول، ومعنى الاستصناع، ومعنى الطاهر والطهور غير صحيح شرعًا في لغة الشرع ولغة العرب قبل التنزيل؛ بل الصواب أن كلام العرب، وكلام الشرع مشحونٌ بالمعاني التي اصطلح على أنها مجاز؛ بل ورد هذا المصطلح باسمه في كلام الإمام (أحمد بن حنبل) وغيره، وورد معنى هذا المصطلح باسم آخر كالظاهر والاتساع في كلام الأئمة كـ(الشافعي) وغيره، والاصطلاح الشرعي قد يكون في كلام منزل الشرعِ كالاصطلاح بالصلاة والحج عن المعاني الشرعية، وقد يكون من إطلاق حملة الشرعِ، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا خلي من المحذور، ولا محذور في الاصطلاح بالمجاز لا في اللفظ ولا في المعنى، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.