د. محمد بن إبراهيم الملحم
استمرارًا لحديثي الفائت عن العوامل الاجتماعية، وعلاقتها بنتائج المملكة في بيزا، حيث أشرت إلى تفوُّق الطلاب ذوي الظروف الاجتماعية والاقتصادية الأفضل على الذين هم أقل، ففي السياق نفسه تقريبًا كانت هناك فروق مهمة جدًّا وواضحة بين أداء الطلاب المقيمين والطلاب المواطنين؛ إذ تفوق المقيمون على المواطنين بفارق كبير (32 نقطة)، وهو الأعلى بين أغلب الدول، وبعيد عن المتوسط الدولي (24 نقطة). علمًا بأن المقيمين يمثلون 12 % من السكان، بحسب بيانات بيزا. كما ظهر التفوق في صورة أخرى، هي أن المقيمين الذين استطاعوا تحقيق درجات عالية في القراءة؛ وأصبحوا في الربع الأعلى من الدرجات، كانت نسبتهم 39 %، وهي نسبة عالية بنظيرتها الدولية لفئة المقيمين، وهي 17 %. ولعل بعضنا يعلم من مشاهداته عبر الدول أن المقيمين (غير المواطنين) غالبًا ما يكونون أقل أداء في التعليم من أبناء المواطنين، بينما المعادلة مقلوبة هنا في السعودية، وربما أيضًا في دول الخليج. وهي ظاهرة تستحق الدراسة، وتجلية العوامل الأساسية لهذا الفارق.
مشاركة الوالدين في العملية التعليمية كانت محل بحث الدراسة؛ إذ شملت أربعة جوانب، نذكر منها اثنَيْن. الأول هو مبادرتهم الشخصية بالحضور للمدرسة، ومناقشة المعلم في مستوى الطالب وتقدمه العلمي. وكان معدل السعودية هو 42 % مطابقًا تقريبًا للمعدل الدولي. والثاني هو حضوهم للمدرسة بناء على طلب أحد المعلمين أو الإدارة للمناقشة في مستوى الطالب وتقدمه العلمي. وقد كان معدل السعودية هنا هو 36 % منخفضًا عن المعدل الدولي الذي يقارب 60 %. وقد أظهرت دراسة بيزا الفاحصة لأداء جميع الدول أن هذا العامل الأخير (الحضور بناء على طلب المدرسة) كانت له علاقة إيجابية بالنتائج العالية في اختبار القراءة أقوى من عامل الحضور بمبادرة شخصية من الوالد (أو الوالدة) لمناقشة تقدُّم الطالب؛ وهذا يدعو إلى تأمل أسباب عدم تعاون أولياء الأمور بالحضور إلى المدرسة متى طُلب منهم لمساعدتها في مهمتها التعليمية! ويدعو الوزارة إلى تبني برامج ومشاريع توعوية مهمة بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية الأخرى، كالإعلام مثلاً؛ لنشر الوعي بأهمية التعاون مع المدرسة، بل قبل ذلك كله «التأكد» من أن المدرسة تدعو أولياء الأمور فعلاً للحضور والمناقشة حول مستوى الطالب وتقدمه التعليمي (خلافًا للممارسة الشكلية الباهتة لما يسمى مجلس الآباء)!
أخيرًا لدي لكم إحصائية لطيفة، هي أن الدراسة سألت الطلاب عن رأيهم في مدى اهتمام معلميهم بهم في التعلم، فسألتهم أربعة أسئلة، هي: هل المعلم يهتم بكل طالب أثناء التدريس؟ هل المعلم يقدم مزيدًا من المساعدة عندما يحتاج الطلاب؟ هل المعلم يساعد الطلاب في كيفية تعلمهم؟ هل المعلم يعيد الشرح مرات عدة حتى يفهم جميع الطلاب؟ وقد توقفتُ عند السؤال الأخير، وتأملتُ نتائج إجابات طلابنا، فوجدتها على التوالي 84 % - 83 % - 88 % - 86 %، وهي أعلى من متوسط كل الدول الذي تراوح بين 75 - 79 %. وعندما أعدت ترتيب الدول بناء على نسبة آخر سؤال (المعلم يعيد الشرح حتى يفهم جميع الطلاب) كنا متقدمين جدًّا؛ فترتيبنا كان السادس، بينما كانت الدولة الأولى في اختبار القراءة (إقليم صيني) في الترتيب الـ34 بهذه القائمة، والدولة الثانية في الاختبار (سنغافورة) كان ترتيبها الـ27، والثالثة (هونغ كونغ) ترتيبها الـ53، والسابعة (فنلندا) كان ترتيبها الـ45! فكيف حقق هؤلاء نتائج عالية في القراءة واهتمام معلميهم دون المتوسط كما تقول القائمة، بينما حققنا مستوى متدنيًا في القراءة بينما اهتمام معلمينا عالٍ جدًّا (حسب رأي الطلاب)؟! طبعًا هذا يعكس احتمالات عدة، أولها أن وعي طلابنا بمفهوم مساعدة المعلم غير ناضج، وهذا لوحظ في الجدول نفسه لدول أخرى متأخرة في القراءة، وكان ترتيبها متقدمًا في هذه الأسئلة. وعدم النضج هذا هو نتيجة غياب الصورة المثالية منذ زمن بعيد لمفهوم المعلم المتميز؛ فأصبح التدريس المتوافر لدى طلابنا - على تواضعه - هو المقياس مما ضخم نتائج هذه الأسئلة. الجانب الآخر الذي يمكن أن تُفسَّر به النتيجة عند إلغاء التفسير السابق تمامًا، واعتبار آراء الطلاب دقيقة فعلاً، هو أنه على الرغم من أن المعلمين يساعدون الطلاب ويهتمون بهم إلا أن الطلاب لم يتمكنوا من مهارات القراءة جيدًا بسبب ضعف هؤلاء المعلمين علميًّا أو تدريسيًّا؛ فبذل الجهد والتكرار والنشاط الزائد لا يمكن أن يعوض النقص العلمي أو المهارة التربوية في إيصال المعلومة وإكساب المهارة. هذا ما لدي، ولا أدري ما تفسير الوزارة لهذه النتيجة في الواقع. وألقاكم في الحلقة القادمة.