حسن اليمني
هل يفتقر العقل للجرأة تحت وطأة التعقل؟ ثم هل لمثل هذا التساؤل وجاهة أو أهمية سواء كان سليمًا أو خطأ ليكون طرحه لو حصل منذ زمن مختلف في أثره على الواقع عن تجاهله أو عدمه من الأصل؟
طرح مثل هذه التساؤلات قد ينظر إليها من باب الخروج عن محيط الدائرة المغلقة فيئده التجاهل والتسفيه لاحتمالين: إما لأنه ما زال من المحرمات في حكم الانغلاق القائم أصلاً الذي استدعى طرح السؤال أو لأن مناخ وطقس الطابع العام لدى الموجِه والموجّه على حد سواء لم يصل إلى استشعار أهميته حتى الآن، لكني لن أتفاجأ لو حصل العكس فالزمن أخذ دورته ومعطيات الراهن تُظهِر أهميته، فالعلاقة بين العقل والتعقل شائكة ومبهمة وفي حاجة لحلحلة وتفكيك، والأمر ليس بالهيّن ولا بالسهل حتى أشرع في البحث عن إجابات هذه الأسئلة، لكن، ألا يكفي أن نستثير العقل والفكر بقبس من سؤال علّ وعسى.
حين تكون الفكرة متقدمة أو جريئة على السائد والمألوف تحت ظروف معينة فإنها ستكون بمثل الشرارة التي تسقط في الماء، ومّضة ضوء سرعان ما تنطفئ وتختفي، كما أن صاحبها معرض للخطر والنفس الآدمية ميالة لتجنب ما يؤذيها، وبالتالي فإن المتجريء بطرح الفكر المحذور قد يوصف بغير المتعقل، يحكم ذلك ظروف البيئة بأعرافها وتقاليدها سواء كانت جيدة أو رديئة، والتعقل أداة حظر ناعمة الملمس شفافة السمْك لكنها قد تعطل تطور أمة لأجيال متعددة.
مجتمعنا السعودي ميال بأصالته للجرأة والإقدام وليس هذا من باب المدح والإطراء لكنها حقيقة ملموسة نعيشها ونشاهدها في الدوائر الضيقة فيما بيننا كحلقة الأصدقاء أو الإخوة بينما تكاد تكون هذه الجرأة والإقدام في الطرح وإعلان الفكر شحيحة وشبه مختفية في الواجهة العامة وليس ذلك إلا نتيجة الردع والزجر الذي صاحبنا عدة أجيال، تجاهل ذلك أو إنكاره لا يفيد بشيء بقدر ما يثبت الضرر ويزيد من عمره، مهما كانت الحقيقة مزعجة ومؤلمة فلا بد من الوقفة والتأمل بتعقل أيضًا لكن من جانب التعقل الإيجابي وليس الجانب السلبي الذي يدفن الفكرة ليتخلص من تبعات انبثاقها بما يوقد العقل والفكر، ايقاد العقل والفكر وإن سلب من الاسترخاء والبلادة بعض وقتها إلا أنه هو الصواب لتحقيق التقدم والتطور إن على محيط الفرد أو المجتمع بشكل عام.
إن منطق التعقل بقدر ما لوجه المصطلح من وقار باعتبار أن ضده وعكسه الجنون أو التهور وهو لا شك مذموم إلا أن سهولة وفوائد استخدام مصطلح التعقل مغرٍ إلى حد توسع استخدامه بشكل تحول معه إلى قيد وحصار للعقل والفكر، وهنا مهما خرّجت المدارس والجامعات من عقول تم حقنها بالعلوم لا يمكن لهذه العقول المقيدة والمحاصرة أن تبحث أصل هذه المعلومة لتضيف أو تعدل أو تفند بقدر ما تحملها خام خامد للحصول على وظيفة ومرتب تتحول إلى عبء على موازنة المالية بفعل التراكم والتكدس الكمي على حساب الجودة والكيفية، تمامًا مثلما لدينا مفكرون ومثقفون وأكاديميون ومنظرو سياسة واقتصاد ولكن حقيقة الأمر أن ليس بينهم إلا عدد قليل من يمكن أن يستطيع أن يكون فاعلاً حقيقيًا ومؤثرًا بينما يتم تجاهل قسوة ومضار التهجين بمصطلح التعقل عن طريق فتح أبواب الضوء والبروز للفكر الذي يحدث ضجيجًا وصخبًا يملأ المساحة على حساب القيمة والجودة النافعة.
قالوا إن العلم نور والجهل ظلام وقد صدقوا، لكن كيف لعقل مغمض عن التفكير أن يرى النور ثم كيف لعقل أن يفكر وهو مقيّد بالتعقل، التعقل ألا تخرج عن الطابع العام فماذا إذا كان الطابع العام يعاني من المرض؟! لماذا لا يتعقل الطابع العام إذن ويدرك أن الفكر في العقول وإن لجمها وقيدها بالمعنى السلبي لمصطلح التعقل خمّد شرار الفكر وأوهن جيناته، ألم يحن الوقت كي نستخدم التعقل في الحد من الزجر والردع ونحوله إلى سعة في تفهم وتقبل المختلف وتقديم النوايا الحسنة والظن الجميل بدل التشكيك والتثبيط.