عبدالوهاب الفايز
أولاً ربما هناك من يتساءل أو يستغرب، وهناك من يذهب بعيدًا مستهجنا طرح قضية الرصيف، وهذا متوقع نتيجة لهيمنة النظرة العاطفية للأمور وعدم إفساح المجال للعقل، لكي يتدبر ويحلل، حالة ذهنية ينشأ عليها بعض الناس، فتجعلهم أعداء لما يجهلون!
نقول لأحبابنا هؤلاء.. هذا الموضوع الصغير في عينينك الكريمتين يعنى الشيء الكثير لأغلبية الناس البسطاء التي تعيش وتتفاعل في المدن، وترى الرصيف صديقها الحنون الذي يستقبل خطاها ويتجاذب معها أطراف الأماني، ومما نذكره أن الشاعر المسرحي محمد الماغوط شعر بحالة الحنان.. (على هذه الأرصفة الحنونة كأمي أضع يدي). ومنا أقوام يجعلون نشاطهم الأساسي في سياحتهم الصيفية المشي ثم المشي، ثم السوق والاستمتاع بما تحويه الأرصفة من مقاهٍ ومطاعم!
وهذا الإقبال الإنساني على الحياة، وأخذ القليل مما تقدمه المدن للإِنسان، هو الذي يجعل الاهتمام بالأرصفة والشوارع (قضية حقوق إِنسان)، ومن يهتمون بهذا الجانب الإنساني ما زالوا يرون تصاميم الأرصفة والشوارع لا يهتم بالإِنسان، ويعتمد نمط التفكير والآليات التي وضعت منذ عقود مضت، فالأخطاء وإهدار الموارد على بناء الأرصفة مازال حيًا نراه كل يوم، والغريب أنك ترى شوارع يعاد تأهيلها لتوسيع الأرصفة الجانبية وتقليل الجزيرة الوسطية، وليس بعيدًا عنها ترى أرصفة تبنى على النمط القديم. إنها حالة عبث وإهدار للموارد!
وهذا العبث لا يخدم الأمور الحيوية التي نتطلع إليها، بالذات الاهتمام بجودة الحياة، فأي جودة نتحدث عنها ونحن ما زلنا نعظم السيارة والبقالة، فالمدن تبنى للإِنسان، مثل الاهتمام بالأرصفة وحقوق المشاة، ولا يقدم عليها النشاط التجاري والسيارة. هذا الوضع المتجاهل أو غير المدرك الواعي لأهمية حقوق الإنسان في المدينة ربما يحله الحراك الإيجابي الذي نراه في القطاع العام.
في إطار هذا الحراك، ربما الأفضل لنا وضع الـ (موافقة النهائية) على إنشاء الأرصفه وكل ما يتعلق بحقوق المشاة وكبار السن في المدن في يد (هيئة حقوق الإِنسان). لماذا؟ حتى نضمن أن الاعتبارات الإنسانية تم اعتمادها والأخذ بها وعدم إهمالها. هذا يتماشى مع التوجه إلى تحويل بعض الأنشطة من وزارة البلديات إلى أجهزة حكومية أخرى مثل نقل الإشراف على أسواق المنتجات الغذائية إلى وزارة البيئة.
ربما نحتاج هذا الإجراء لمدة خمس سنوات قادمة حتى يتطور وعينا، كمجتمع ومؤسسات حكومية، وينضج وعينا الحضاري بأهمية أنسنة المدن، ومن هذا الإجراء نأمل تنامي القناعة الإيجابية حتى توجه السلوك الجمعي ليرى الرصيف حق إنساني أساسي يجب أن يحظى بالاهتمام الذي يوازي الاهتمام بحقوق الإنسان الأساسية. نأمل أن نرى تكريس القناعة لدى العاملين في قطاع البلديات، وكل من لهم سلطة على القرار البلدي، فهؤلاء ـ مع الأسف ـ ما زالت قناعتهم ثانوية بأهمية الرصيف للإنسان في المدينه المعاصرة!
والاهتمام بحقوق المشاة وسلامتهم ليس أمرًا جديدًا علينا، فالإسلام أعطى الأولوية للاهتمام بالطريق، وجعل إزالة الأذى صدقة، وحدد الآداب العامة مثل غض البصر وكف الأذى وردُّ السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا الموروث يوسع أدوات الرقابة وآليات التشريع حتى نحمي الأرصفة والشوارع من قلة الإهمال وسوء الاستخدام.
الاهتمام بالرصيف له منافع عديدة. إنه يؤدي إلى تعدل سلوك النشاط التجاري، فعدم الاهتمام بالأرصفة أدى إلى تحول الأرصفة إلى مستودعات ومكب للنفايات، وتلاشى الاهتمام بتأمين المواقف للسيارات، لأن الرصيف يوفر البديل! أيضًا الرصيف يعد أداة للتربية الوطنية عندما توضع الضوابط والتعليمات التي تحكم الأماكن العامة وضرورات الأخلاق والذوق العام بشكل واضح وبارز للمشاة، فهذه آلية للتعليم والتثقيف الذي يراها الناس أمامهم لتذكرهم بحقوق الطريق وتعزز الاتجاهات الإيجابية لديهم.
ثمة منافع أخرى. الرصيف استثمار للمدن إذا وضعت فيه الضوابط الضامنة للسلامة والجماليات للإعلان والتسويق. كذلك الرصيف ضروري للتشجيع على المشي، وهذا له عائده على الصحة العامة. أيضًا يؤدي لتعظيم الاستفادة من مشروعات النقل العام، وترويض استخدام السيارة، وبالتالي تقليل الحوادث والتلوث والضجيج، وكل هذه ضروريًا لما نسعى إليه، أي: جودة الحياة.
ما رأي هيئة حقوق الإِنسان. هل يهمكم هذا الموضوع، أم أن (الحاله الثقافيه) تسري عليكم؟!