د.فوزية أبو خالد
افتتح هذا المقال بسؤال كثيراً ما يلح عليًّ وخاصة كلًّما رأيت ملمحًا من حياة عشناها أو عاشها أمهاتنا وآباؤنا وأجدانا يُمحى أو ينمحي بحكم سنة الحياة والثابت الوحيد في حياة المجتمعات وهو التغيير، وهذا السؤال هو لماذا إلى الآن ورغم مضي ما يزيد على أكثر من نصف قرن على عمر الجامعات عندنا بتخصصاتها من الدراسات الاجتماعية لا زلنا بعيدين عن اجتراح دراسات شفيفة تحفر في تاريخنا الاجتماعي القريب على الأقل مع بداية تأسيس المملكة العربية السعودية، وتقدم لنا بعض الاجتهادات العلمية في قراءة ذلك التاريخ، لعل الأجيال تعلم ما حدث وتعقل ما يحدث أو ما تريد حدوثه مستقبلاً.
لعلنا لو نفعل عبر مؤسساتنا البحثية العتيقة أو بمؤسسات بحثية جديدة أقدر على اجتراح التوثيق والتحليل، ليس للرسمي وحسب بل لمفاصل تاريخنا الاجتماعي بزخمه الشعبي نتيح للأجيال التعرف على طموح وأحلام الأجيال التي سبقتها, فتستطيع التمتع بمشروعية أن يكون لها طموحها وأحلامها في حب الوطن بطريقة خلاقة لا تسقط في شرك سقطات الماضي وتعثراته ومزايداته الصراعية التي لم تعد مناسبة للحظة المعاصرة.
ولعل وزارة الثقافة على وجه التحديد التي أصبح عدد منا يعلق عليها آمال شاسعة في تحريك المياة الراكدة والأحلام المؤجلة في المجال المؤسسي الثقافي «الرسمي» وغير الرسمي بحكم ما تلوح به وما يلوح منها من مبادرات إيجابية تكون قادرة على المبادرة مبدئيًا على إيجاد منفذ إداري يسمح بتكليف المهتمين والمختصين والهواة للقيام بعمل توثيقي للتاريخ الاجتماعي عبر عدد من أوعية الثقافة، دراسات، كتب، أفلام..
باستثناء عدد يعد على اليدين من الكتابة بأقلامنا وعدد أكبر منه نسبيًا من كتابة كتبت بأقلام غيرنا عنا وقلة من الصور والأفلام العتيقة ومذكرات الرحالة مثل مذكرات جيمس بد, رحلة إنجليزي من عنيزة إلى مكة الصادرة هذا العام الهجري, وشاكلتها, فإن تاريخنا الاجتماعي والثقافي والمعرفي، وكذلك تاريخنا الوجداني والأدبي (ومثال الأخير النادر كتاب التيارات الأدبية لحمزة شحاتة الصادر قبل أكثر من نصف قرن), قد ظل ولا يزال إلى حد كبير حبيس الصدور. بل إن حيزًا غير قليل منه قد آل فعلاً ليكون حبيس القبور. بما يشي باحتمال اتساع حيز القبور بطي مسيرة المجتمع الحياتية في صدور المغادرين منا تباعًا ما لم نهز أشرطة الذاكرة ونكشف كنوزها بجرأة سردية ونقدية ونبدأ في التوثيق. وأيضًا ما لم نكف عن التشاغل بالعموميات وننشغل بحفر التفاصيل في مسيرة الحاضر وفي صنع فسيفساء المشهد اليومي.
وكنت بحكم دراسة أولى قمتُ بها عن حياة المرأة بجنوب المملكة في الماضي وسجلت فيها مشاركتها في الحياة العامة وفي الإنتاج، وكذلك بحكم كتابتي عن نساء الشمال ونساء الأحساء ونجد قد تقدمت لجهات عدة بفكرة توثيق حياة النساء من مختلف الطبقات ومختلف مناطق المملكة بتعددها وتنوعها، بما يشبه مشروع بحث أثنوجرافي مكتوب ومرئي كمادة تسجيلية معاشة، باعتبار أن بعض شهود مراحلها المتباعدة لا يزالون أحياء، إلا أن أحدًا مع الأسف لم يستجب.
ولا يقل أهمية عن ذلك بطبيعة الحال العمل التوثيقي لمختلف التجارب الحياتية الأولى والتالية للحياة الاجتماعية بالمملكة برجالها ونسائها وأجيالها المتعددة والمتداخلة.
فمشهد طفل نحيل يمشي حافيًا في هجير صحراء ليس خلفه إلا كثبان رمال حارقة وإرث قبلي يتشظى، ليس عليه إلا ثوب رث وحرز من أسنان ذئب يفترض «أسطوريًا» أن يحميه من الجن, وليس أمامه إلا حلم غامض بأنه يريد أن يصير رئيس شركة أرامكو التي كانت تبدو له التحدي الوحيد لقهر حالة الشظف التي عليها مجتمعه وأسرته, هو جزء من صورة التاريخ الاجتماعي الذي ظل في ظل الطفرات النفطية وجزرها مستترًا في الضمائر.
ومشهد طفل يساعد في بناء بيوت الطين ويكد يافعًا على تاكسي بريالين ثم يصير محاضرًا بجامعة, ليس تاريخًا شخصيًا وحسب بل هو صورة لأطياف من المجتمع طالما ضاعت خلف طيف أو آخر ولم تعط الفرصة مثلها مثل قصص كثيرة، ليكون هناك حكاية الشعب بجانب الحكاية الرسمية التي تدرس في المدارس للأطفال.
ومن هنا يصير منشودًا عزيزًا أن يمتد مداد الكتابة وعين الكاميرا ما أمكن إلى أثير تاريخ المجتمع قبل تبخره تمامًا، وأن يلحق حبر التدوين الكتابي والبصري بحركة الواقع قبل الابتعاد عنها أو قلب الصفحة, هدفًا من أهداف الانتقال من المرحلة الشفوية إلى المرحلة المكتوبة. فهذا الهدف على أهميته معرفيًا ربما يخال لنا أننا قمنا بإنجازه على أتم وجه, بينما ما تم فيه لا يعدو جزئية صغيرة لا يعول عليها بحجمها الحالي في تحقيق نقلة نوعية في حياة المجتمع للخروج على تواريخ مزمنة من سرعة المحو والإندثار لما لم يكتب من سيرتنا الفردية والمجتمعية معًا.
وأشير هنا لعملين عظيمين في هذا المجال وهما عمل الأستاذ الجليل - رحمه الله - عبدالكريم الجهيمان والعمل الموسوعي للدكتور سعد الصويان بما يستحق أن يستلهم ويبنى عليه.
غير أن منشود معارضة القصص والوقوف في وجه تحول التاريخ الاجتماعي إلى هباء من الأنقاض لا يقتصر على هدف التدوين السردي على أهمية هذا الهدف وثائقيًا، ولكنه ينبع من أهداف عدة علمية وأدبية وسياسية واجتماعية تدعو لأخذ أمر كتابة ذاكرة المجتمع وكتابة حاضره كأمر بالغ الأهمية للهوية ولمستقبلها.
ومن هذه الأهداف هناك الهدف التدويني وهناك الهدف التوثيقي، وهي أهداف غالبًا ما يختصر الحرص بلوغها في محاولة تسجيل الوقائع بمجال التاريخ السياسي ومجال الجغرافيا الحدودية إلا أنه نادرًا ما تقدم تلك المحاولات بحرصها نفسه على تسجيل التاريخ السياسي على توثيق مجال التاريخ الاجتماعي والتاريخ الثقافي والفكري والوجداني. ولهذا يصبح تعدد مصادر التدوين والتوثيق وتعدد مجالاته هدفًا بحد ذاته يضاف إلى الأهداف السابقة ليمتد التدوين من الخاص إلى العام ومن الشخصي للوطني ومن الوجداني للمعرفي.
أما الهدف الجامع لأهداف التوثيق فيتمثل في استبصار هذه المادة الذاخرة بتحويلها من حالة الخام إلى حالة العناصر الفعالة في تكوين صورة المجتمع في حركتها وفي تعدد صور اللاعبين فيها بحيث تصبح صورة ممثلة لمروحة المجتمع العريضة الملونة.
وهذا يتطلب بطبيعة الحال عملاً علميًا منهجيًا يملك أدواته ورؤيته للتفكيك والتحليل ولإعادة قراءة تاريخنا الاجتماعي والثقافي والسياسي، وهو عمل أولئك الشغوفين بالبحث والمعرفة العلمية والإبداعية، وهم ليسوا قلة لو توفر شرط الحرية وشرط التمكين منه. ومرة أخرى هذا مقترح لوزارة الثقافة لتشرع نافذة العمل به وتفتح نوافذ الشراكة فيه مع قوى المجتمع المدني المهتمة بالشأن الثقافي والمعرفي والأكاديمي بحثيًا وسينمائيًا في هذا المجال مجال تسجيل السيرة اليومية لحياة نساء ورجال هذا المجتمع واستلهامها والانتقال بها ومنها إلى المستقبل.