ياسر صالح البهيجان
مصطلح الأنسنة تزايد استعماله في العقدَيْن الماضيَيْن في ظل هيمنة التكنولوجيا على العلاقات بين البشر، حتى تحول الإنسان إلى كائن رقمي افتراضي، يحضر في الفضاء الإلكتروني أكثر من حضوره في الحياة الواقعية، وبدت التقنية هي المسيطرة على عقله وطريقة تفكيره وسلوكياته، وأصبح جسدًا خاويًا من المشاعر الإنسانية التي تمثل جوهر كينونته، وسرًّا من أسرار تميزه عن سائر المخلوقات الدابة في الكون الفسيح.
ما سنسلط الضوء عليه هو تأثير الإفراط في توظيف التكنولوجيا على رضا المستفيدين من الخدمات التي تقدمها المؤسسات الحكومية والخاصة، وكيف أسهمت في غياب عنصر التفاعل البشري الذي يعد من أبرز عوامل احتواء المواقف وحل المشكلات، إذ إن المشكلة خليط بين تعسُّر تقديم الخدمة على الوجه الأمثل، وما ينتج عنها من مشاعر سلبية تعزز من ارتسام صورة ذهنية غير إيجابية. ولعل نظرة سريعة على حجم التفاعل السلبي في شبكات التواصل الاجتماعي ضد الكثير من المؤسسات يؤكد ضعف قدرات منصات الاتصال المؤتمتة، وعدم تلبيتها لتطلعات متلقي الخدمات.
لنأخذ على سبيل المثال الردود الآلية التي تستعين بها معظم الجهات للتواصل مع المستفيدين، سواء عبر الهواتف المباشرة أو المواقع الإلكترونية أو شبكات التواصل.. وعادة ما يكون الدافع الحقيقي لها هو تقليص المصروفات بالاستغناء عن موظفين بشريين، يباشرون مهمة الرد. وقد يتحقق هذا الهدف فعلاً، لكنه في المقابل يغفل جانبًا مهمًّا، يتمثل في رضا العميل والمستفيد من الخدمة؛ لأنه لن يجد إنسانًا مثله يبث إليه شكواه، ويشرح له حجم معاناته؛ وحينها تنقلب الآلة الناطقة بفعل التكنولوجيا الحديثة إلى سمة سالبة، تزيد من احتقان الطرف الآخر.
المغالاة في الأتمتة قد تكون حلاً جزئيًّا لتحقيق هدف سرعة التجاوب.. إلا أن العبرة في جودة التفاعل التي لا يمكن للآلة الجامدة مهما بلغ ذكاؤها أن توفرها في ظل اختلاف ثقافات العملاء وطرق تفكيرهم وتبايُن حاجاتهم واختلاف مقاصدهم؛ لذا لا بديل عن الاستثمار في الإنسان وتدريبه وتنمية مهاراته؛ ليتولى تلك المهمة العسيرة والمفصلية لدى أي مؤسسة تنشد الارتقاء بجودة خدماتها.
بالتأكيد لا نطالب بإقصاء التكنولوجيا وما تتيحه من إمكانات استثنائية قادرة على تسهيل الإجراءات، واختزال عشرات الخطوات بخطوة واحدة، وإنما نشير إلى أهمية أن يظل الإنسان حاضرًا بفكره ومشاعره لمنح تلك الآلات شيئًا من طبيعته وعفويته؛ لتتمكن من أداء مهمتها، وتحقيق الأهداف التي أُنشئت من أجلها؛ إذ إن التجارب لا تزال تردد «الإنسان أعظم ثروة على وجه الأرض».