عبد الله باخشوين
(البومة العمياء) و(أربعة أفراس حمر) و(مدينة الغد) و(معزوفة درويش متجول)؟!
كأن هذا آخر ما احتشد في الذاكرة الكسولة لقارئي هجر القراءة.. ثم ها هي تعود به لفترات متفرقة من زمن القراءة..
رواية (البومة العمياء) للكاتب الإيراني ابن تيار الفلسفة الوجودية كتبها بالفرنسية، وانتحر في فرنسا عام 1951. نُشرت أول مرة في مجلة (شعر) اللبنانية، وقرأتها هناك -لا أذكر في أي عام- لكنها من أهم الأعمال التي أثرت في بداياتي، وأمرضتني لشدة جمالها وسوداويتها وقسوتها.. وغني عن القول إن أثرها امتد في كتاباتي الأولى.. في (تقليد) لم ينجح، وبقي في ذاكرتي منه العنوان: (الطفل ذو الشوارب) لقصة لم يكتب منها سوى ما لا يزيد على صفحة أو أكثر قليلاً.. وظلت على حالها ذاك منذ أكثر من ثلاثين عامًا؛ لأن المضي في كتابتها أكد لي أني لا أدري أين سوف تذهب بي.. وأنا لا أحب أن أكتب قصة ليس لدي تصور تقريبي عن نهايتها.. وبقي صادق هدايت في ذاكرتي يذهب ويجيء.. غير أني لم أجرؤ على إعادة قراءة الرواية مرة أخرى على غير عادتي مع الأعمال التي أحبها أو تؤثر بي، التي أعدت قراءة بعضها خمس أو ست مرات على طريقة الروائي الأمريكي الشهير وليم فولكنر الذي يقول عن القراءة: «هناك أصدقاء لي في كثير من الروايات أشتاق لهم، وأعود للاطمئنان على أحوالهم من حين لآخر)؟!
أما رواية (أربعة أفراس حمر) فهي للروائي اللبناني يوسف حبشي الأشقر، وهي ضمن التيار الوجودي أيضًا. صدرت في مطلع الستينيات. وهي سابقة لكل من ادعى أنه يقوم بـ(تفجير اللغة)؛ فهي محملة بزخم شعري ثري جدًّا.. يسبق (هذر) إدوارد الخراط.. لا أدري أيضًا متى أرهقت وعانيت في قراءتها ومطاردة التيار الشعري الهائل الذي يهيمن عليها. ولأنها من قراءاتي الأولى فقد عدت للبحث عنها قبل سنوات عدة؛ علَّني أقرؤها بعين وفهم جديدَين قبل أن أكتشف أنها لا بد أن تكون في أحد رفوف مكتبة الصديق الشاعر الجميل وقتها - أي قبل نهاية الشعر - فقد كان أحد الذين كنت أحرضهم على قراءة بعض ما في مكتبتي من قديم أحببته.
ولأن (مدينة الغد) هي للشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني فقد كان هذا الديوان مفتاح علاقتي بالشعر اليمني بعيدًا عن خزعبلات عبدالعزيز المقالح؛ إذ إنه دعاني لقراءة شاعر كبير آخر، هو محمود الزبيري. وسر حبي للبردوني يعود لكونه الشاعر العربي الوحيد الذي أثبت أن بيت الشعر العربي التقليدي قادر على حمل مضمون حديث ومواكب دون الادعاء أن هذا لا يتم إلا من خلال قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة.
البردوني التقيته في بغداد في أحد المهرجانات الشعرية.كان بزيه اليمني التقليدي، يبرز من محزمه (حقة النشوق)، ويسيل أثره على شفتيه، وبصحبته زوجته.. باغته بالقول:
- «اشتى تنشيقة يا عم عبدالله..؟!»
غير أنه لم يباغت، وقال ضاحكًا:
- «قاتلك الله لحقنا لما هنا.. منين أنت..؟!»
أما (معزوفة درويش متجول) فهي للشاعر السوداني - الليبي لاحقًا - محمد الفيتوري.. أكرر دائمًا مقطعًا قصيرًا، لا يتناسب مع (بيروت)، لكنه يناسب تمامًا.. وضع بيتنا في (جبل الحبالى) أو العزيزية بالطائف.. يقول الفيتوري مكملاً (النفس الصوفي) للقصيدة:
- قنديل زيتي مبهوت
في أقصى بيت في بيروت
أتألق حينا.. ثم أرنق.. ثم أرنق.. ثم أموت.