د.عبد الرحمن الحبيب
تتربع الصين على واجهة المسرح العالمي من خلال سياساتها الاقتصادية المنفتحة على العالم خاصة مشروعها العملاق «الحزام والطريق». لا يكاد بلد في العالم لم يتأثر بذلك أو لم تغمره المنتجات الصينية، حتى بلغ نموها الاقتصادي إلى ما يشبه المعجزة كأعلى نمو بالعالم مما أقلق بعض الدول المجاورة والمنافسة. هذه القوة الاقتصادية العظمى ترافق معها نفوذ متزايد على النظام العالمي وتأثير قيادي في الشؤون العالمية.
إذا كان ذلك معروفاً، ومعه نعرف الكثير عن الصين، فإننا نجهل كثيراً رأي شعوب العالم بالصين، مما يتطلب استطلاعاً عالمياً للرأي؛ وهذا ما قام به مركز بيو للأبحاث في الفترة بين مايو وأكتوبر 2019. بطبيعة الحال سنحصل على آراء متباينة لأشخاص من جميع أنحاء العالم، إذ وفقًا للاستطلاع، كان متوسط من لديهم رأي إيجابي عن الصين حوالي 40 % في 34 بلداً شملهم الاستطلاع، مقارنة بمتوسط 41 % لديهم رأي سلبي.
الرأي العام عن الصين في معظم أنحاء أوروبا الغربية سلبي، بشكل عام. ففي حين أن 51 % في اليونان لديهم رؤية إيجابية عن الصين، فإن أغلبية بلدان أوروبا الغربية الأخرى لديها وجهة نظر سلبية، تتراوح من 53 % بإسبانيا إلى 70 % بالسويد. وبشكل عام فقد انخفض الرأي الإيجابي عما كان عليه في عام 2018 بنحو 11 نقطة مئوية.
أما في الولايات المتحدة وكندا فيسود الموقف السلبي تجاه الصين، حيث لدى 60 % و67 %، على التوالي، نظرة سلبية عن الصين. هذا أعلى رأي سلبي عن الصين مسجَّل في تاريخ الاستطلاع بالمركز لهاتين الدولتين. ويبدو ذلك واضحاً في كندا، التي زاد فيها الرأي السلبي 22 نقطة مئوية في أعقاب القبض على كبير المسؤولين الماليين في شركة هواوي الصينية وما تلاه من احتجاز الصين لمواطنين كنديين لا يزالان رهن الاحتجاز.
ما يزعج غالبية الأمريكان والكنديين (ومعهم بعض الأوروبيين) هو اتهامهم للصين بسرقة الملكية الفكرية، واكتساب التكنولوجيا الحساسة، والاستحواذ على الأعمال التجارية، ودمج القطاعين العام والخاص بحيث يكون لدى شركاتهم ميزة غير عادلة بسيطرة الدولة على القطاع الخاص، والتلاعب بالعملة، والإجحاف في الميزان التجاري لصالح الصين.. إلخ.
كما تتلقى الصين علامات سلبية من معظم جيرانها. ففي اليابان، قال 85 % إن لديهم رأيًا سلبياً بشأن الصين، وهي النسبة الأعلى سلبية بين جميع الدول التي شملها الاستطلاع. وقد يبدو ذلك مفهوماً في ظل التوتر التاريخي بين البلدين. كما ارتفعت الآراء السلبية حول الصين إلى أكثر من النصف في كوريا الجنوبية (63 %)، ربما بسبب ما يرونه من مناصرة الصين لكوريا الشمالية. أما في أستراليا والفلبين فكانت النسبة السلبية 57 % و54 % على التوالي.
وهنا، نذكر أن النفوذ والهيمنة الاقتصادية الصينية على بعض البلدان الآسيوية، أقلق البعض أن يكون مشروع «الحزام والطريق» شكلاً من أشكال الاستعمار الجديد.. فقد ثارت مخاوف أستراليا والهند واليابان التي شكّلت تحالفاً للحدّ من السطوة الصينية. لذا، يلاحظ تراجع الآراء الإيجابية حول الصين في جميع أنحاء تلك المنطقة، وهي تحوم الآن عند أدنى مستوياتها التاريخية أو بالقرب منها في كل من الدول المجاورة للصين التي شملتها الدراسة. ففي إندونيسيا، كان التغير خلال العام الماضي حاداً جدا، إذ انخفض الرأي الإيجابي 17 نقطة مئوية وبلغ 36 %.
على النقيض من ذلك، وللغرابة، يبرز الروس بوضوح بالاستطلاع لأن لديهم وجهة النظر الأكثر إيجابية تجاه الصين بين جميع البلدان التي شملتها الدراسة (71 %). كذلك فإن غالبية بلدان الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء التي شملتها الدراسة لديها رؤية إيجابية حول الصين باستثناء تركيا وجنوب أفريقيا والأرجنتين؛ وقد بلغت الرؤية الإيجابية تجاه الصين أقصاها في نيجيريا (70 %). وقد يبدو ذلك منطقياً بالنسبة للبلدان المنتجة للنفط حيث تشكل الصين الزبون الأكبر.
نلاحظ عموماً أن الآراء الإيجابية تجاه الصين انخفضت بمعدل عام عما كانت عليه في الاستطلاعات السابقة لمركز بيو، حيث انخفض على مستوى العالم من 45 % عام 2018 إلى 40 % عام 2019. الانخفاض الأوضح كان في الدول الغربية والدول الآسيوية المجاورة للصين. قد يبدو ذلك بسبب المنافسة الاقتصادية لأغلب هذه الدول مع الصين وما يجري من «حرب تجارية» خفية أو معلنة. أضف إلى ذلك ما تزعمه بعض الدول الغربية من سوء سجل حقوق الإنسان بالصين، وما تتهمه دول أخرى من تقاعس الصين في حماية المناخ والبيئة.
بعض الحكومات الغربية تتهم مبادرة الحزام والطريق بممارسة دبلوماسية فخ الديون لتمويل مشاريع البنية التحتية؛ وأشهر مثال يذكرونه هو سريلانكا، فعبر مليارات القروض الصينية، أقيمت ناطحات سحاب وطرق سريعة ومطارات وموانئ شحن.. البلاد ازدهرت، لكن بعد بضع سنوات أصبحت عاجزة عن التسديد، والطريقة الوحيدة للخروج من الورطة هو إعطاء الصين السيطرة على ما قاموا ببنائه..
يبدو عموما أن المزيد من القوة يجلب المزيد من المساءلة والبحث عن السلبيات، وكلما تصدرت دولة المشهد العالمي صارت عرضة أكثر للنقد والبحث عن بديل أفضل قد لا يوجد في الواقع قدر ما يوجد في الأمنيات..