ما إن تبدأ عملية البحث عن إجابات للتساؤلات المتعلقة بالعملية التخطيطية، تتضح وبشكل تدريجي صفات تلك العملية، وسيتم فهم الأسلوب الذي يتعامل به المسؤولون عن عمليات التنمية داخل المدن. لذا، فما هي نواحي عملية التخطيط الحضري المحلية في المملكة العربية السعودية؟ وما هي نوعية المشاريع الحضرية التي من خلالها تتضح تلك العملية؟ وما هي سلسلة القرارات التي تحدد عمليات التنمية؟
أخذت ممارسات التخطيط الحضري خلال الخمسين عاماً الماضية مجموعة من الاتجاهات الفكرية، وقد أسهم منظري بعض الاتجاهات الفكرية في شرح العملية التخطيطية الإجرائية (planning process) وعمليات صنع القرار واتخاذه في العالم الغربي. وقدموا صيغًا نظرية عامة، مثل: فكرة نموذج التخطيط العقلاني (Rational Planning)، والتخطيط التدريجي (Incremental Planning)، و»النظرية التوقفيّة» (Contingency Theory)...إلخ)؛ سعياً منهم لفهم بعض الأساليب التي تقوم عليها عمليات صنع القرار واتخاذه، وتبسيط مسار التنفيذ ورفع احتمالاته. وبالمقارنة بين بعض تلك الاتجاهات الفكرية في عملية التخطيط الحضري وصنع القرارات واتخاذها فيها، اتضح عدم الاتفاق الكلي على مبادئ لعملية تخطيط حضري موحدة وصنع قرار ينطبق على كل المدن، وإنما لكل مدينة في العالم بيئتها وظروفها المحيطة التي تحدد عملية التخطيط، وتجعل صناع القرار ومتخذوه يرجحون أحد القرارات دون سواه في مشاريع التنمية الحضرية.
ومحلياً مر التخطيط الحضري في المملكة بمسار نشوء وتبلور الهياكل التنظيمية للأجهزة التخطيطية في الدولة وتأثر بها، منذ أواخر الثلاثينيات الميلادية من القرن الماضي. ففي عام 1962م تأسس مجلس التخطيط الأعلى، ثم تحوّل مجلس التخطيط الأعلى إلى هيئة التخطيط المركزية ... إلى أن أنشئت وزارة الشؤون البلدية والقروية عام 1975م، وتم تحويل هيئة التخطيط المركزية إلى وزارة التخطيط. وفي الوقت نفسه مر التخطيط الحضري بمسار التطور الفني في تجارب إعداد المخططات وتنفيذها، خصوصاً مع مطلع السبعينيات الميلادية، من خلال حزمة لمشاريع التنمية الحضرية المنفذة، مثل: مشروع تخطيط مدن شركة أرامكو في المنطقة الشرقية وتنفيذها، مخططات شركة دوكسيادس في مدينة الرياض، تخطيط وتنفيذ مشروع قصر الحكم ...إلخ.
ويلاحظ أن التخطيط الحضري في المملكة ظهرت به صفات شبه ثابتة أكدتها المسيرة المتنوعة لعملية التخطيط الحضري التي يمكن أن تتلخص في: (1) المركزية، (2) الاتفاق مع المنهج العقلاني، (3) مصدر التمويل واحد، (4) البيروقراطية الإدارية، (5) الاعتماد على الجوانب الفنية، (6) ضعف التنسيق وتداخل الصلاحيات بين الجهات ذات العلاقة.
ولرصد العملية التخطيطية المحلية والتعرف على صفاتها من الواقع التطبيقي لها فعلياً، لعلنا نأخذ - على سبيل المثال- مشروع تطوير طريق الملك عبدالله بن عبدالعزيز أحد أبرز مشاريع التنمية الحضرية في مدينة الرياض، ومليء بالقرارات التخطيطية، وتتداخل في المشروع بيئات تنظيمية مختلفة من القطاعين العام والخاص. وسيكون رصد العملية التخطيطية عن طريق تحليل المعلومات والوثائق الخاصة بمشروع تطوير طريق الملك عبدالله، وإيضاح وتصنيف القرارات المتخذة، وإبراز العوامل المؤثرة على صنع القرار واتخاذه في المشروع، بالإضافة إلى توضيح علاقة الجهات مع بعضها لبعض، ودورها في عمليات صنع القرارات وأسباب اتخاذها. فقد نبعت فكرة مشروع تطوير طريق الملك عبدالله من دراسات المخطط الاستراتيجي الشامل لمدينة الرياض، وكانت البداية منذ الموافقة على الخطة التنفيذية لشبكة الطرق المستقبلية لمدينة الرياض في عام 2001م، وبعدها أُقرَّ للتنفيذ بعد موافقة أمير منطقة الرياض في عام 2006م، وتضمنت الموافقة التصاميم الهندسية والتفصيلية ووثائق التنفيذ.
أدّى تتبع التسلسل الكلي للقرارات المتخذة في مشروع تطوير طريق الملك عبدالله بن عبدالعزيز من خلال المسار الزمني الممتد ثلاثة عشر عاماً بدءًا من عام (2001م) وحتى عام (2014م) حتى نهاية المرحلة التنفيذية الثانية إلى تصنيف القرارات، وأمكن تقسيم عملية التخطيط الحضري إلى ثلاث مراحل رئيسة. المرحلة الأولى: مرحلة صياغة السياسات والتخطيط، وحددت ما بين عامي (2001م - 2005م) لأن أغلب النقاشات التي تمت في هذه الفترة الزمنية متعلقة بالتصور العام للمشروع والجوانب التخطيطية له. بينما المرحلة الثانية: مرحلة التصميم والجوانب الفنية، حددت ما بين عامي (2005م - 2007م)، إذ دخلت المناقشات بهذه الفترة الزمنية في الجوانب الفنية والعناصر التصميمية. أما المرحلة الثالثة: مرحلة التنفيذ، فحددت بما بعد عام 2007م، حيث كانت المناقشات أكثر تركيزاً بعد هذا العام على التفاصيل المتعلقة بالأمور التنفيذية للمشروع.
تضمنت المرحلة الأولى (2001 - 2004م)، حزمة من القرارات المتعلقة بصياغة السياسات والتخطيط، مثل قرار اعتماد خطة تطوير شبكة الطرق المستقبلية عام 2001م، وإقرار المخطط الاستراتيجي الشامل لمدينة الرياض عام 2003م ... إلخ. أما المرحلة الثانية (2005 -2007م) فتتمثل في الدراسات الفنية والتصميم التي تم بناؤها على المستوى الذي قبله، مثل الالتزام بمخرجات المخطط الاستراتيجي الشامل كطرح منافسة الدراسات التصميمية التفصيلية للمشروع في عام 2005م وتحديد نطاق العمل... إلخ. ومن ثم التنفيذ كمرحلة ثالثة (2007 -2014م)، مثل توقيع عقود تنفيذ المشروع مع الشركات المنفذة (المقاولون)، على عدة مراحل متفاوتة من عام 2007م حتى عام 2014م، ومتابعة التنفيذ ميدانياً في موقع المشروع.
أبرز تحليل القرارات المتخذة في المشروع بعض الصفات المتعلقة بالعملية التخطيطية المحلية، والتي تمثلت في:
1 - الوضوح: اتسمت بدرجة من الوضوح تمثلت في مراحل المشروع الثلاث: مرحلة صياغة السياسات والتخطيط، ومرحلة التصميم والجوانب الفنية، ومرحلة التنفيذ.
2 - المركزية: ظهرت المركزية في معظم اتخاذ القرارات فأخذت نصيب الأسد في عملية صنع القرارات واتخاذها الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، حيث استحوذت على ما نسبته 53 في المائة من اتخاذ القرارات وخصوصا القرارات الجوهرية منها.
3 - منهجية عملية التخطيط: التخطيط في مثال مشروع تطوير طريق الملك عبدالله نبع من مشكلة أن مجموعة من الطرق في مدينة الرياض لم تعد تفي باحتياجات النقل بيسر وأمان، ثم تم تحليل الأوضاع الراهنة لتلك الطرق، والخروج ببدائل وسيناريوهات لرفع كفاءة تلك الطرق من شريانية إلى طرق سريعة، ثم ترجيح حالة الدراسة كأولوية في تنفيذ مشاريع الطرق المستهدفة.
4 - المرونة في التعامل مع بعض حالات صنع القرار واتخاذه: اتضح وجود مرونة لا بأس بها في التعامل مع بعض حالات صنع واتخاذ القرار، فقد يكون أحد القرارات قابلاً للأخذ والرد والتحوير والتنازل عن رغبات جهة دون أخرى، مثل: قرار تعديل التصاميم النهائية للمشروع من قبل الهيئة العليا لعدم موافقة وزارة المالية تغطية تكاليف تنفيذ التصاميم المعتمدة، وقرار إعادة تصميم وتنفيذ قواعد جسر الملك فهد رغم عدم موافقة وزارة النقل لذلك، مما جعل الهيئة العليا تقوم بتراجع عن جزء من القرارات التي تبنتها في عملية التخطيط، واستبدالها بقرارات أخرى تتناسب مع ما يحدث على أرض الواقع.
5 - التدفق المالي ومصدر واحد للتمويل: وضوح إنهاء الإجراءات المتعلقة في الارتباط المالي، وآلية صرف الدفعات المرحلية المستحقة، والموافقات التي حصل عليها مشروع تطوير طريق الملك عبدالله من أعلى منصب في المدينة (أمير المنطقة)، يمكن اعتبارها دعماً من السلطة الأقوى نفوذاً. كل ذلك، كان ضامناً لسلاسة التدفق المالي بحالة الدراسة، في ظل مصدر تمويل واحد (وزارة المالية)، ومن نوع واحد أيضًا، وهو منحة حكومية من الدولة بما نسبته 100 في المائة لتغطية جميع تكاليف المشروع.
6 - الثقة الممنوحة لإدارة المشروع: تشكيل لجنة عليا تنفيذية للمشروع من قبل أمير منطقة الرياض، وبدورها اللجنة العليا شكلت لجنة فنية تمثلها. وبمعرفة مناصب أعضاء اللجنة العليا، والمكونة من: رئيس مركز المشاريع والتخطيط في الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، أمين أمانة منطقة الرياض، وكيل وزارة النقل لشؤون الطرق، ومدير عام مرور الرياض. يلاحظ أنه تم منحهم الثقة بسبب مراكزهم الإدارية الرفيعة على مستوى المدينة؛ لتحقيق التعاون بين جهاتهم، بالإضافة إلى تذليل الصعوبات التي ستواجه العمل.
7 - وجود فريق عمل متخصص: وجود فريق عمل ثابت الدور ومتنوع ومتغير الأعضاء وفق تخصصاتهم، تتمحور مهامه في قيادة المشروع، لقد تم تشكيل ثلاث فرق عمل حسب المراحل الثلاث للمشروع. سهل ذلك صناعة القرارات البديلة واتخاذها أثناء التخلي عن القرارات المتخذة سلفاً، كما حدث في تغيير التصاميم التفصيلية للمشروع؛ لأجل مواكبة الميزانية المقدرة بعد رفض وزارة المالية تغطية تكاليف تنفيذ التصاميم قبل تعديلها.
كما أوضح تحليل المشروع أن هناك تنوعًا في مستويات القرار، فالقرارات تشتمل على ثلاثة مستويات، هي: قرارات المستوى الأعلى، مثل: قرار المشروع ذاته، وقرارات المستوى المتوسط، مثل: التنسيق مع إدارة المرور؛ لتنظيم حركة السير وتأمين بعض مواقع المشروع أثناء أعمال التنفيذ، وقرارات المستوى الأدنى: الذي يهتم أساساً بالقرارات الإشرافية لتنفيذ الإجراءات التخطيطية على أرض الواقع. كما نجد أن غياب التنسيق المسبق، وظهور التنسيق اللاحق عند الحاجة، الذي يلحق القرارات بعد اتخاذها لا يسبقها قبل اتخاذها، وهذا النوع من التنسيق يظهر في كيفية تنفيذ القرارات بعد اتخاذها من السلطة الأعلى، كما توضح ذلك قرارات المستوى الأعلى في تحليل مستويات القرار الثلاثة، أما حالات اتخاذ القرارات في المستوى الأدنى فيكون التنسيق بعد حدوث صعوبات أو عوائق تنفيذية.
كانت صناعة القرار محلية، بمعنى أن القرارات يتم صناعتها وتبنيها من داخل الهيئة العليا؛ لأن الهيئة هي الجهاز التخطيطي المسؤول عن تخطيط وتنفيذ المشروع ويتمتع بصلاحيات تخوله ذلك، وأثبتت تلك الصلاحيات أن للهيئة دورا أساسيا في قيادة المشروع، وفي المقابل أخذت المكاتب الاستشارية والجهات الأخرى دوراً مسانداً ليس أساسياً يتمثل في الاستشارة، ودعم بعض القرارات في المشروع، مثل: قرار الموافقة على التصاميم النهائية، ووثائق التنفيذ المدعوم من المكتب الاستشاري المعني بالدراسات التصميمية. كما يوجد أصحاب علاقة رئيسيون لهم علاقة مباشرة وتعاقدية في المشروع، وأصحاب علاقة ثانويون ليس لهم علاقة تعاقدية، ولكن لهم تأثير غير مباشر على المشروع.
نستنتج من العرض السابق، أن عملية التخطيط الحضري وصناعة القرار في المملكة العربية السعودية لها صفات يمكن تقسيمها إلى جزءين، هما: صفات الجزء الأول: التي تتفق إلى حد كبير مع بعض صفات اتجاه التخطيط العقلاني (Rational Planning)، فيما يتعلق بالوضوح في صنع القرارات واتخاذها، فصناعة القرارات واتخاذها مبنية على تحديد المشكلة، ووضع الأهداف، ثم جمع المعلومات وتحليلها، ووضع البدائل، ومن ثم اختيار البديل المرجح ومتابعة تنفيذه على أرض الواقع. بالإضافة إلى المركزية فنجد أن عملية صنع القرار واتخاذه تتم بمعزل عن الجهات التي تمثل المجتمع، مثل: مجلس المنطقة، والمجالس البلدية.
أما صفات الجزء الثاني: فهو ما يمكن وصفه بخصوصية عملية التخطيط المحلية وصناعة القرارات واتخاذها، التي نتجت عن الظروف التي مرت بها، كوجود فريق عمل دوره ثابت في قيادة المشروع، ومتنوع ومتغير الأعضاء وفق تخصصاتهم، وظهور التنسيق حسب حاجة العمل لسد فجوة ضعف التنسيق المسبق بين مختلف الجهات ذات العلاقة، فلو أن هناك تنسيقاً مسبقاً لسهَّل عملية تنفيذ القرارات بشكل سلس دون جهد وتكلفة أعلى. كما أن صناعة القرارات محلية بمعنى أنه يتم تبنيها وصناعتها واتخاذها داخل الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، وأصحاب العلاقة في المشروع انقسموا إلى رئيسين وثانويين.
وتعد السلطة الأقوى والنفوذ من أهم الصفات التي دفعت قرارات المشروع نحو التنفيذ، كالموافقات التي حصل عليها المشروع من قبل أمير منطقة الرياض، ويمكن النظر إلى تلك الموافقات بأنها عناصر داعمة جاءت من أعلى سلطة في المدينة؛ مما أسهم ذلك في ضمان التدفق المالي، وسهولة إنهاء الإجراءات المتعلقة بالارتباط المالي، وصرف الدفعات المرحلية المستحقة بسلاسة في ظل وجود مصدر (وزارة المالية) ونوع (منحة) تمويلي واحد.
وكان الدور الأساسي للهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض في قيادة المشروع بارزاً؛ لتميزها بسلطة قوية، وخبرة عالية في التوفيق بين مستويات القرار العليا منها والتنسيقية والتنفيذية، ناهيك عما كانت تتمتع به من إمكانيات فنية.
بعد رصد العملية التخطيطية وعرض أبرز صفاتها من خلال مثال مشروع تطوير طريق الملك عبدالله بن عبدالعزيز بالرياض، يمكننا في النهاية عمل مقارنة بين الصفات المشتركة والخاصة لعملية التخطيط الحضري، فنجد الصفات المشتركة مع الإتجاه العقلاني تتمثل في:
1 - الوضوح
2 - المركزية
3 - البدائل المتاحة لاختيار البدائل التخطيطية
4 - غياب مشاركة المجتمع المحلي
5 - الاعتماد على الجوانب الفنية بشكل عام
6- التخطيط نابع من المشكلة وتحليل الأوضاع الراهنة
أما الصفات المشتركة مع ما كتب نظرياً عن تاريخ العملية التخطيطية في المملكة العربية السعودية تتمثل في:
1 - مصدر التمويل واحد
2 - الضعف في التنسيق بين الجهات
3 - صناعة القرار أجنبية من خلال شركات استشارات غير محلية
4 - الاعتبارات السياسية ودعم السلطة الأعلى
5 - تداخل الصلاحيات بين الجهات ذات العلاقة
وفي المقابل الصفات الخاصة للعملية التخطيطية في مثال مشروع تطوير طريق الملك عبدالله بن عبدالعزيز بالرياض تتمثل في:
1 - المرونة في التعامل مع القرارات التخطيطية وكافة مستوياتها
2 - الثقة الممنوحة لإدارة المشروع
3 - وجود فرق عمل ثابتة ومتخصصة
4 - تنوع مستويات القرار
5 - غياب التنسيق المسبق
6 - صناعة القرار محلية
7 - أصحاب العلاقة منقسمون (رئيسي/ ثانوي)
8- تنوع طرق التواصل المستخدمة
(هذا المقال هو ملخص مختصر لرسالة قدمت لنيل درجة الماجستير في التخطيط العمراني والإقليمي من جامعة الملك سعود، 2018م)
** **
م. صالح عبدالعزيز القفيعي - ماجستير التخطيط والتصميم العمراني