د. محمد عبدالله العوين
دخلتُ مبنى «الجزيرة» لأول مرة عام 1393هـ تاجراً صغيراً لا صحفياً يبحث عن طريقه في بلاط صاحبة الجلالة، وما كنت أعلم أن هذه الصحيفة الموقرة ومكاتبها ستكون لي بعد ذلك سكنًا أو أشبه بالسكن، وسيكون رئيس تحريرها ومحرروها وكتابها عالمي المثالي الذي أبحث عنه منذ وقعت في يدي أول جريدة وذهب الخيال بي بعيدًا؛ يا ترى هل يمكن أن أكون في يوم ما كهذا الكاتب أو ذاك مكتوبًا اسمه بالبنط العريض وبجانبه صورته في أبهى حلة بالعقال والغترة البيضاء ويرف فوق شفته العليا شارب أسود رقيق، كنت أسرح في أحلام اليقظة الوردية تلك بيدَ أنني أصحو فجأة على ما يصدمني ويدفع تلك الصور المتخيلة الجميلة تتداعى باستحالة تحققها لما وقر في وجدان كثيرين منا نحن القرويين البعيدين عن المدن بأن تلك الصحف قلاع محصنة لا يدخلها ولا يعمل فيها إلا نخب مختارة من كبار الأدباء والمثقفين، ومن يستطيع الدخول إلى واحدة من تلك القلاع ويحظى بالاطلاع على طبيعة العمل الصحفي ويلتقي برئيس التحرير والمحررين أو الكتاب فإنه سيتحدث بما شاهده وسمعه مرات ومرات لأهله وأصدقائه ومعارفه متفاخرًا مزهوًا بما رأى وعرف من مشاهير الكتاب.
ربما كانت لديَّ بعض شجاعة فتى لم يتجاوز الرابعة عشرة ينهض بإدارة مكتبة (الثقافة) في الحوطة ويدفعه إقدامه على مقابلة مدير عام المؤسسة الأستاذ صالح العجروش - رحمه الله - ليطلب منه تخفيضًا يفوق ما تمنحه المؤسسة للمكتبات التجارية؛ وهو 20 %، فكان له ما أراد، ولم ينس ذلك الرجل البشوش الطيب تلك المقابلة مع التاجر الصغير بعد أن أصبح محرراً وكاتباً في الجريدة؛ فكان يذكرها لجلسائه من باب التندر الذي لا يخلو من الإعجاب.
ولئن كسبت من مقابلة الشيخ صالح زيادة الخصم على أعداد الجريدة التي كانت توزعها المكتبة، وقد كانت مائة عدد؛ فإنني لم أتجاسر لألقي نظرات على مطبخ الجريدة الصحفي؛ فقد رأيت أن ذلك قد يكون تطفلاً، وليس معي ما يشفع لي بمقابلة محرر لأعطيه ما ينشره، فضلاً عن مقابلة رئيس التحرير.
في السنة الأولى الجامعية كتبت المقال الأول وذهبت به مزهواً إلى المشرف على الملحق الأدبي الأستاذ حمد القاضي، ومن محاسن الصدف أنني وجدته وبدون توقع ولا سابق موعد، وبعد سلام وقليل من الكلام قدمت المقال إليه فألقى عليه نظرة سريعة صامتة طالت داهمني فيها شيء من قلق وترقب قطعه الأستاذ بقوله (سينشر الثلاثاء القادم إن شاء الله).
ما أبعد الثلاثاء وأثقل خطوه ليصل موعد الملحق الأدبي الذي لا أعلم أين سيكون مقالي؛ أفي الصفحة الأولى منه أم الأخيرة؟ هل سيكتب ببنط عريض أم سيلقى في حقل محاولات المبتدئين؟!
وأشرق الثلاثاء بالمقال متوسطًا الصفحة الثانية من الملحق بتقديم كريم من المشرف وبعنوان بارز (الحَرف بين القرية والمدينة) بقلم فلان، وهذا وحده يكفي حتى ولو لم يكن برفقه صورة لكاتبه مزينة بعقال وشارب أسود خفيف كما تخيلت! يتبع