عبدالمجيد بن محمد العُمري
في البداية أود القول إنه شاع في الإعلام وعلى ألسنة العامة استخدام كلمة (مسيحي) و(المسيحيون) على أتباع الديانة النصرانية، والأصل أن نسميهم (النصارى) كما سماهم الله عز وجل في كتابه الكريم (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيءٍ وَهُم يَتْلُونَ الْكِتَابَ ?)، وهذه التسمية هي الأولى و الأصل، وأعود للموضوع الذي سأتناوله طرحاً بين أيديكم حول قدوم بعض النصارى من الرحالة والمستشرقين إلى مكة المكرمة ومحاولاتهم القدوم إليها بأساليب وطرق ملتوية حيث كانت مكة المكرمة منذ مئات السنين هدفاً لهؤلاء الرحالة حتى وإن كان الثمن أعمارهم في رحلات عبروا بها البراري والبحار وكان مضانها التهلكة، وإذا علمت غاياتهم وأهدافهم من هذه الرحلات فقد يزول العجب لأنها ليست رحلات سياحية واستكشافية أو اقتصادية أو علمية، بل في الغالب أنها رحلات دينية وسياسية عسكرية.
وحديثي لن يكون عاماً أو سرداً لتاريخ هذه الرحلات بل سيكون مركزاً بالدرجة الأولى على رحلة نصراني ورفيقه المقيم في مكة المكرمة وكيف وصلا إليها شاهرين وظاهرين، وغير مختفيين كمن سبقهم ممن تظاهروا بالإسلام وتعلموا العربية تيسيرًا للوصول، وعليهما مدار حديثنا فقد دخلوا لمكة المكرمة بإذن مسبق من الحاكم المسلم، ومما يميزهم عن الرحالة السابقين أيضاً أنهم من نصارى العرب وليسوا من نصارى الغرب والذين سبقوهم ممن سأذكر بعض أسمائهم في نهاية الحديث.
صاحب الرحلة المعني هو الأديب العربي اللبناني الأمريكي أمين الريحاني الذي هاجر إلى أمريكا مع أبويه وعمره اثني عشر عاماً، ودرس التاريخ والأدب الأمريكي، وأثرى معارفه بالأدب والثقافة الفرنسية والإنجليزية وقد ترك إرثاً ثقافياً قارب الستين كتاباً، منها 27 كتاباً باللغة العربية، و30 كتاباً باللغة الإنجليزية، وتنوعت موضوعاتها في الرحلات والتاريخ، والمقالات السياسية والاجتماعية، والنقد الأدبي، والشعر والرواية والقصة والمسرح، إلى جانب مجموعة من الرسائل.
استهوت الريحاني الرحلة لبلاد العرب أو تم تجهيزه لهذا الغرض من قبل البلد القادم بقوة أمريكا، ولا يمكن الجزم بهذا ولكن تهمة الجاسوسية للريحاني تناولها المؤرخون وسيقت الوثائق والدلائل على هذه التهمة، وليست أيضاً مرتكز حديثنا إنما هي إشارة لابد من ذكرها دون الخوض في تفاصيلها ونفيها أو تأييدها، وحينما عزم الريحاني على الرحلة وأن تكون البداية لقبلة المسلمين كان خير سند له نصراني عربي لبناني يوناني يعمل في مكة المكرمة لدى الشريف حسين وهو من المسؤولين والمستشارين المقربين لديه، وهو قسطنطين يني الذي روى في تسجيله لرحلتهم إلى الحجاز وتحديداً إلى مكة المكرمة قائلاً:( كان ذلك عام 1922 حين تلقيت بطاقة من صديقي أمين الريحاني الموجود في نيويورك، يسألني فيها متعجباً كيف وصلتُ إلى الحجاز ؟ بعد معرفته أنني كنت في أثينا متطوعاً في الجيش اليوناني، ويسألني عن معيشتي هناك ؟ وهل أنا مسرور بصفتي مسيحياً في أرض إسلامية؟ فأجبته بكتاب مفصل أوقفته فيه على طريقة معيشتي والمركز الذي أشغله في الحكومة الحجازية والأسباب التي دعتني لترك أثينا والحضور إلى الحجاز والطريقة التي اتخذتها للوصول إلى هذه الأمنية، ودعوته لعندي ليرى بعينيه ما أرويه له عن حياة البداوة والأخلاق العربية التي كدنا نخسرها في بلادنا لاحتكاكنا بالأجنبي وتخلقنا بأخلاقه.
ويواصل قسطنطين سرد هذه الذكريات؛ وما إن وصله كتابي حتى أجابني عليه بكتاب مطول يسألني فيه بعض الأسئلة التي يطلب الجواب عنها من جلالة الملك حسين الذي كنت في خدمته يومئذ، فعرضتها على جلالته وتلقيت جوابه على كل سؤال منها.
وقد قال لي جلالته رحمات الله عليه : أكتب لصديقك إن بلاد العرب للعرب و إن الحجاز مفتوحة أبوابها لكل عربي فليحضر على الرحب والسعة، أما مكة المكرمة فليس دخولها ممنوعاً على المسيحي العربي، إنما بسبب الظروف الحاضرة والعقلية المتأخرة في البدو نرجيء الزيارات إلى وقت آخر، ويمكنه زيارة كل قبائل الحجاز والتعرف على عاداتهم ولهجاتهم وأخلاقهم وأخذ دروس مفصلة عنهم، أما زيارته للبلدان العربية الأخرى فلا موجب له لتحمل كل هذه المشقة بعد زيارته لقبائل الحجاز لأن العرب كلهم واحد في كل قطر من جهة الأخلاق والعادات، وإذا كان يود القيام بسياحة علمية في جميع البلدان العربية فنحن نسهل له سفره وليكن أميناً على حياته، إن العرب لايضرونه بل يكرمونه إكراماً يليق بعلمه وأدبه.... فبلِّغهُ ذلك وقل له إنه سينزل ضيفاً علينا في الحجاز وسترافقه أنت في مراحل تنقلاته ليستأنس بك.
ويضيف قسطنطين: فبادرت لإيقاف أمين على كل هذه التفاصيل التي رغب في الوقوف عليها ودعوته للحضور بسرعة، فأجاب الطلب وحضر للحجاز معرجاً على مصر (وقدم قسطنطين موجزاً عن حفاوة الأدباء والنخب بالضيف في مصر).
ويواصل سرد الذكريات قائلاً: وما إن هبط أرض الحجاز حتى كانت شهرته العلمية قد سبقته إليها فرحب به جلالة الملك حسين وأنزله ضيفاً عليه مكرماً معززاً، وفي أحد الأيام دعاه سمو الأمير زيد - نجل جلالة الملك- إلى نزهة في قرية بين جدة ومكة وفيها المياه العذبة والنخيل الظليل وكنا أربعة في السيارة : سمو الأمير زيد وأمين الريحاني وفؤد الخطيب وزير خارجية حكومة الحجاز يومئذ وأنا، وكان فؤاد الخطيب ينشدنا أشعاره في الطريق حتى وقف الأمين على بعض أبيات الغزل وطلب من الشاعر أن يعيدها وقال: إن هذه الأبيات من شعر الأمم وتستحق الترجمة للإنجليزية وشرع يترجمها مباشرة على علبة دخان كانت معه وهذه الأبيات:
بعد موتي عناصر الجسم تنحل
فيمتصها التراب طعاما
فاذكريني إذا تكللت بالزهر
ففيه هباءً جسمي أقاما
وأنشقيه فإن فيه ريحاً
عاطراً كان في الفؤاد غراما
ويضيف قسطنطين أنه تم دعوتهم لتناول طعام العشاء لدى المعتمد الإنجليزي في جدة وروى فؤاد الخطيب قصة الأبيات وترجمتها التي نظمها أمين الريحاني بالانجليزية بداهة وكان المعتمد سميث من المستشرقين الذين يجيدون اللغة العربية ومتذوق للأدبين العربي والإنجليزي ووعد بترجمة أخرى للأبيات وبعد عدة أيام أعلن عجزه واستسلامه وأقر بشاعرية الريحاني وإبداعه.
تحققت زيارة الريحاني لمكة المكرمة أما طلب زيارته للكعبة، فلم يإذن له الشريف حسين لأنه نصراني وقد عرض عليه شريف مكة البقاء والعمل معه في حكومته ولكنه اعتذر منه وشرف بهديته التي يعتز بها وهي خنجر يحمل اسم الشريف وقطعة من ستار الكعبة المشرفة، فاعتبره أمين شرفاً كبيراً له وقد يكون أمين الريحاني النصراني الوحيد الذي قدم له مثل هذه الهدية.
وبمساعدة من الشريف حسين انطلق من مكة المكرمة إلى اليمن مستهلاً رحلاته للبلدان العربية وبدأت صداقاته بالملوك والأمراء العرب في ذلك الوقت، ولم يكن معجباً بالشريف حسين رغم مساعدته له في القدوم لمكة المكرمة والاحتفاء به بل انتقد سياساته، وعلى العكس من ذلك كان معجباً بالملك عبدالعزيز آل سعود، وكان يعتبره (ملك العرب)، وتوثقت علاقته بالملك عبدالعزيز، فإلى جانب ما كتبه عنه في (ملوك العرب) ألّف كتابه الشهير (تاريخ نجد الحديث وسيرة عبدالعزيز عبدالرحمن آل فيصل آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها، وهذه الرحلات أثمرت عن عدة مؤلفات، منها: ملوك العرب عام 1924م، تاريخ نجد وملحقاته عام 1927م، قلب العراق عام 1922م، فيصل الأول عام 1934م، قلب لبنان عام 1947م.