تلبستني المفاجأة الحادة، واستولت على الصدمة الكبيرة، عندما أقلتني سيارة الأجرة من مطار طشقند في عام 1991م، عقب استقلال جمهورية أوزبكستان بشهور قلائل عن الاتحاد السوفيتي البائد.
أتيت هاته المدينة القديمة، وفي روعي أن الاتحاد السوفيتي يضاهي الغرب تمدّنًا وحضارة، فإذا بي إزاء مدينة متأخرة عمرانيًا وحضاريًا، فما ثمّ إلا العمائر السوفيتية الشهيرة في وسط المدينة، التي تراها في مدن تلكم الجمهورية الشيوعية البائدة المترامية الأطراف، بينما بيوتات بقية المدينة مبنية بالطوب اللبن..
كانت طشقند حينها تفتقر لكثير من الأدوات والحاجيات العصرية، كسائر مدن الاتحاد السوفيتي التي أحاطها قادة الكرملين بستارٍ حديدي متين، وأحكموا قبضتهم الأمنية طيلة سبعين عامًا، هو عمر الشيوعية في تلك البلاد، ولذلك كانت المفاجأة الكبيرة والصدمة التي لا تزال تجلجل في نفسي إلى الآن، وأتذكر أن القومية الروسية هي من كانت تهيمن على المدينة وسائر جمهورية أوزبكستان وبقية الجمهوريات الإسلامية التي استقلت تباعًا بعدها، وكانت اللغة الرسمية هناك، التي يتكلم بها الجميع - وقتذاك- هي اللغة الروسية التي فرضت عليهم، بله عن الثقافة السوفيتية التي يتمّ زرعها رغمًا في وعي الأجيال عبر الإعلام والمدرسة والجامعة.
كنت قبل شهر تقريبًا في طشقند، أزورها بعد 29 عامًا، فإذا بي بمدينة عصرية متقدمة، تتخلّلها الحدائق الخضراء الواسعة، وتزخر بالبنى التحتية للسياحة، وتنتشر فيها الفنادق الكبرى والكافيهات والمطاعم الفاخرة، لأضرب كفًّا بكفّ، وأنا أتذكر أننا لم نجد -قبل ثلاثين عامًا- محلاً واحدًا يقدم البيتزا أو البرغر.
انتبهت في زيارتي هذه إلى اللغة التي يتكلم بها المجتمع هنا، فما ثمّ إلا اللغة الأوزبكية التي أحيوها، ومن عجيب ما رأيت أنني كنت أسأل الأجيال الجديدة إن كانوا يتحدثون اللغة الروسية أو يكتبون بها، فيجيبون بالنفي، وقد انقطعت علاقتهم كاملة باللغة والثقافة الروسية التي امّحت إلا عند كبار السن ممن نشأوا في تلكم الحقبة البغيضة، وحلت اللغة الإنجليزية كلغة ثانية تتكلم بها الأجيال الجديدة، لذلك لا تجد عناء بالتحدث بها مع الندل في المطاعم أو موظفي الاستقبال في الفنادق أو الإدلاء في المناطق السياحية.
كنت أظن أن طشقند مدينة حديثة أنشأها الغزاة الروس لسحب الريادة من عاصمة القائد الشهير تيمورلنك مدينة سمرقند، ولكن عجبت أن لها تاريخًا عريقًا، فقد عرفت المدينة قديمًا باسم «شاش» بالعربية أو»تشاتش - جاج» بالفارسية. وللمرة الأولى جاء ذكر تشاتش كاسم جغرافي في كتابات الملك الساساني الإيراني شابور الأول عام 263م. أما في المصادر العربية، فقد جاء ذكر «شاش» ما بين القرنين التاسع والعاشر تحت اسم «بنكث» أو «بينكينت».
وفي نهاية القرن العاشر الميلادي وللمرة الأولى وردت التسمية التركية «طشقند» في كتاب العالم الشهير أبو ريحان البيروني، وقد وصفها الشاعر أبو الربيع البلخي بقوله:
الشاشُ بالصيفِ جَنّة
ومن أذى الحرّ جُنّة
وكما وصفها الشاعر عبدالعزيز جنكيز في هذه الأبيات:
وطشقندُ التي حوتِ الجَمالا
تحاكي الجنّةَ المأوى الزلالا
وقد عُرفتْ ب»شاشٍ» يومَ كانتْ
يشدُّ لعلمها الناسُ الرحالا
وقد ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان بقوله: «الشاش خرج منها العلماء، ونسب إليها خلق من الرواة والفصحاء».
وقد أطلق عليها المؤرخون لقب «بوابة الشرق» وكذلك أطلق عليها «بلد الألف مدينة». وكما يسميها المعاصرون بـ»نجمة الشرق».
فتح العرب المسلمون المدينة بقيادة قتيبة بن مسلم الباهلي سنة 94 للهجرة، ودمرها جنكيز خان عام 1219م. استولى عليها تيمورلنك عام 1361م، ثم أعاد تيمورلنك بناءها لتستفيد من تجارة الحرير التي كانت تمر من خلالها. وسقطت في يد روسيا القيصرية في عام 1865م، وطبق الشيوعيون في العهد السوفييتي سياسة نقل السكان، فكانت تزخر عندما زرتها في عام 1991 بقوميات تنوف عن المائتي قومية، وفدت من جميع المناطق السوفييتية مما غيّر تركيبتها السكانية.
خرج من طشقند في الفترة الإسلامية كوكبة من العلماء المسلمين منهم الإمام أبو الشاشي: (904م - 976م.) ويضاف إلى اسمه «الكبير» احترامًا وتقديرًا، كان إمام عصره، وعالمًا في العلوم الإسلامية كالفقه والحديث والتفسير، وتفقّه على المذهب الشافعي، ونشره في موطنه. من مؤلفاته: «دلائل النبوة»، «محاسن الشريعة»، «جوامع الكلم»، «أدب القاضي»، «شرح الرسالة» و»الفتاوى».
هناك الإمام أبو سعيد الحافظ الهيثم بن كليب الشاشي، الذي ولد في بنكاس قرب طشقند، وتوفي عام 946م، وهو من أشهر العلماء في رواية الأحاديث الشريفة، ولقّب بـ»الإمام الشاشي»، ومن مؤلفاته: «المسند» و»المسند الكبير» في الحديث.
ثمة عالم اسمه أحمد بن محمد بن إسحاق: المعروف بنظام الدين، الفقيه الحنفي، المتوفى سنة 344هـ. وهو من تلاميذ أبي الحسن الكرخي، الذي قال فيه: «ما جاءنا أحد أحفظ من أبي علي، سكن الشاشي بغداد، ودرس بها. وهو أحد الأشخاص الذين نسب إليهم كتاب أصول الشاشي، وهو من كتب أصول الفقه المعتبرة، ودرس في عدد من البلدان».
أثناء تجوالي في مدينة طشقند لاحظت أن نصبًا كبيرًا أقيم في أهم ميادينها، ينعى من قتل في الزلزال الشهير الذي ضربها في 25 أبريل 1966، ودمّرها بشكل كبير، وقتل الآلاف من سكانها، وكانت قوة الزلزال 7.5 على مقياس رختر.
من أهم ما زرته هناك في العاصمة الجميلة طشقند، متحف مصحف الخليفة عثمان رضي الله عنه، بساحة الإدارة الدينية، وعندما ولجته؛ إذا بي بمصحف كبير، حروفه غير منقطة، ومكتوب على جلد غزال، ويحوي سبعة أجزاء فقط من مصحف سيدنا عثمان الذي بعثه للأقاليم، وقصته أن تيمورلنك عندما استولى على العراق، وجد المصحف وحمله إلى عاصمته سمرقند، وبقي المصحف هناك طيلة القرون الطويلة، حتى أخذه القياصرة الروس إلى متحف سانت بطرسبورغ في أواخر القرن الثامن عشر، ولم يأبهوا لاحتجاجات المسلمين، وعندما سقطت روسيا القيصرية، استجاب لهم الزعيم فلاديمير لينين، رغبة منه في كسب المسلمين، وأعاده لهم إلى سمرقند في عام 1923م، ونُقل المصحف منها إلى طشقند في عام 1924م، ورأيت صور القطار الذي نقله، وجماهير المسلمين من أهل طشقند يستقبلونه ببكاء ودموع.
كذلك يوجد دينار ذهبي نادر، ضُرب في عام 308 هـ، يحمل اسم دار ضرب الشاش: «بسم الله ضرب هذا الدينار بالشاش سنة ثمان وثلاثمئة».
الحديث يطول عن طشقند، التي تخطو بشكل كبير في عهد الحكومة الأوزبكية الحالية المنفتحة على العالم، التي أطلقت خطًا جويًا مباشرًا بين طشقند وجدة، وبلاد أوزبكستان منجم العلماء، ومن يتسن له زيارة تلك البلاد سيجد وشائج قوية تربطه بتلك البلاد، حيث الحضارة الإسلامية الوسطى متبدية في ملامح كل مدنها التاريخية كسمرقند وبخارى وترمذ وخوارزم.
** **
- عبدالعزيز قاسم