د. عبدالحق عزوزي
ثبت للخاص والعام أن الغلو ظاهرة مرَضية تأتي على الأخضر واليابس وتقوض دعائم المجتمعات، حيث إن مريدي التنظيمات الجهادية يرتمون منذ نعومة أظافرهم في مستنقع الفكر الشمولي ليخلقوا إيديولوجية عمياء وهي في نظرهم خلاصية ولا تطيق الاعتراف بفشل مشروعها السياسي أو الاجتماعي، وأكثر من ذلك فشل الجميع في العلم والمعرفة والتربية والتقنية؛ فيؤدي العرب والمسلمون، وللأسف الشديد، ثمن خروج التنظيمات الجهادية عن صفحات التاريخ...
يجب على المعلمين والمربين في مدارسهم ومؤسساتهم التعليمية أن يهيئوا أبناءهم الطلبة لخوض حياة تقبل الآخر؛ تحاوره وتناقشه وتجادله بالتي هي أحسن، فالمنهج المدرسي بيئة مناسبة لتعويد الطالب على التحاور البناء، وتعويده على أن الخلاف مهما كان يُحَل بالنقاش والحوار، وتدريبه على الأسس الشرعية التي دعا إليها ديننا في تلقي الآخر... فالغلو والتطرف وما نتج عنهما من الإرهاب يتطلب من الجميع أن نتكاتف لحربه ودحره، فهو ليس من الإسلام في شيء، بل ليس من الأديان السماوية كلها، فهو عضو فاسد ولا علاج له سوى الاستئصال...
«فداعش»، و»بوكو حرام» في مالي و»القاعدة» في اليمن، وغيرها من التنظيمات المتطرفة في سيناء، ومنطقة جنوب الصحراء الأفريقية هي كلها مسميات لإرهاب واحد حيث يضع مريدوها للانتهازية عنوانًا من الدين، ويقدمون للظلم وسفك الدماء البريئة تبريرات من الآيات، ويعطون لأفعالهم وأعمالهم وجشعهم أسماء من الشريعة، ويضفون على انحرافهم هالة من الإيمان ويجعلون سفك الدماء ظلمًا وعدوانًا عملاً من أعمال الجهاد... وهاته أمور ليست من الإسلام في شيء، وإنما خروج عن الدين والعقل وتصرف جاهلي يتشح بالدين ويتسربل بالشريعة لتذوب من خلال هاته الأفعال قيم الإسلام السامية وتمحي بهاته الأفعال مثل القرآن العليا، والإسلام بريء منها.
وهاته المنظمات الإرهابية لم تنزل من المريخ وإنما نمت في أوطاننا واستغلتها فآت ضالة ومضلة زادتها في غلوها وإرهابها... فالمصيبة الآزفة والعظمى هي إذن في عقولها وتكوينها وجهلها، بمعنى أن المدرسة في مجتمعاتنا أفرزت مثل هاته الأوبئة الفتاكة التي تأتي على الأخضر واليابس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فالمدرسة يجب أن تقوم بزرع المبادئ والقواعد الدينية السمحة في أفئدة وعقول الناشئة منذ صغر سنهم، وتزيل عنهم الطغيان في التعصب الديني والتنازع والفرقة والاختلاف، وتشرح لهم خطورة الفهم الحرفي والسطحي والجزئي المتوجس من المقاصد الضابطة لبوصلة النص والحكم الشرعيين... فبغياب مدرسة القرن الواحد والعشرين فإن التاريخ لن يسامحنا وسنرعى غلو أناس سفاكي الدماء يكفرون ويقتلون ويزرعون الفتن باسم الدين والدين بريء منهم... فمدارسنا ومؤسساتنا التربوية - ولقد سبق وأن كتبت ذلك وأعيده هنا - هي الأرحام التي تصنع فيها العقول والأجيال والمستقبل، وبدون إعادة النظر في مناهجنا في الإبان فإننا نقدم للبشرية أناسًا قلوبهم وعقولهم كالحجارة أو أشد قسوة يقتلون ويقاتلون على عروض الدنيا ويتصارعون من أجل تأويلات لفظية ويتخلخلون في توافه المسائل ويتحللون في سفاسف الحياة ويفتقدون أي رؤية تكاملية للحاضر وأي رؤية بصيرة للمستقبل.
وقد كنت أوردت سابقًا في هاته الجريدة ما كان قد أفتى به الفقيه الحنفي ابن عابدين في حاشيته، وهو أنه إذا تنازع اثنان على طفل، وكان أحدهما مسلماً والآخر ذمياً، وادعى المسلم أن الطفل ملك له (عبد أو رقيق)، وادعى الثاني أنه ابن له فإنه يحكم لصالح الذمي، لأن تنشئة الطفل على الحرية وإن كانت على غير دين الإسلام، أفضل من تنشأته على العبودية وإن كانت على الإسلام. ذلك أن حرية المرء وكرامته مرتبطان بإنسانيته، فيسبقان دينه ويتقدمان عليه... فكم أود أن تدرس في مدراسنا قيم الحرية والتسامح والإنسانية وأبجديات بناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك والتي يجب أن تكون مقدسة في عقول الناشئة، والله سبحانه وتعالى قد أراد الناس مختلفين، وخلقهم شعوباً وقبائل لكي يتعارفوا، وأمر المسلمين بالتعاون مع بعضهم بعضًا ومع غيرهم في البر والتقوى، ونهاهم عن التعاون في الإثم والعدوان... والأصل أنه في غير حالة العدوان على المسلمين أو فتنتهم في دينهم أن يكون البر والقسط هو اليد التي يمدها المسلمون إلى غيرهم لبناء تلكم الأسرة الإنسانية الجامعة والتي كرمها الله سبحانه وتعالى.