أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: كل تأويل لمعطِّل حمل فيه ظاهر الكلام: من حقيقة، أو مجاز: إلى غير ظاهره: فإنما يكون بطلانه ببطلان دعوى التأويل في ذلك النص بنفسه؛ ولا يعني بطلان كل تأويل؛ ومن العُقَد في هذا المجال: التفريق بين مراد المتكلم وأسلوب التعبير؛ فكلاهما يدخله ثنائية الحقيقة، والمجاز؛ والتأويل اصطلاحاً يعني مآل الكلام إلى معنى من المعاني بالاستدلال، ويكون هذا المعنى مدلولَ تعبير حقيقي تارةً، ومدلول تعبير مجازي تارة.. ومن عُقَد هذا الموضوع أيضاً ما حكاه (ابن قيم الجوزية) - رحمه الله تعالى - في كتابه (اجتماع الجيوش الإسلامية) عن الفيلسوف (ابن رشد): أن التأويل إن سلط على بعض من النصوص عاد الشرع كله متأولاً.
قال أبو عبدالرحمن: ليس هذا بصحيح؛ لأن كلام كل متكلم يحتاج إلى تفسير؛ وتفسير كلام المتكلم قد ينتهي إلى مراد يوافق ظاهر اللغة العربية، وقد ينتهي إلى تأويل يخالف ظاهر اللغة كما في قول الله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ} (سورة النحل/ 98)؛ فالظاهر غير المراد: أن الاستعاذة بعد التلاوة، وأما غير الظاهر (وهو المراد ببراهين التأويل، وهو المجمع عليه): أن الاستعاذة قبل التلاوة؛ فهذا تأويل برهاني لا يعني مشروعية التأويل لكل نص قام البرهان على أن المراد ظاهره.. بل الأصل الحمل على الظاهر حتى يتعذر الحمل عليه، أو يقوم البرهان على إرادة غيره.. ومن الشُّبَه التي دعت إلى إنكار بدهية الحقيقة والمجاز دعوى أن المجاز كذب، وأن القرآن منزه عن الكذب، ومع أن الأصوليين والعلماء عنوا بالرد على هذه الشُّبَه إلا أن المختار في الرد عليها: المنع من دعوى الكذب أصلاً؛ لأن اللغة وسيلة تعبير عن مراد متعين أو متخيل؛ والتعبير عن المعنى يكون بلفظ وُجد في لغة العرب مطابقاً لمعناه؛ فهذا هو الحقيقة اللغوية؛ ويكون بلفظ غير مطابق لمعناه؛ وإنما يتعلق بمعناه بجزئية أو شُبهية أو لزوم، وقبله العرب باستعمالهم، أو قبلته أصول لغتهم؛ لأنه وفق أساليبها؛ فارتفعت دعوى الكذب عن التعبير نفسه، لأن ما أقرته لغة العرب ليس كذباً على العرب، وارتفعت دعوى الكذب عن المعنى المعبر عنه؛ لأن ما كان مدلولاً للكلام العربي حقيقة أو تخيلاً فهو من معاني لغة العرب، وليس مكذوباً عليها، والكلام العربي في حقيقته اللغوية وفي مجازه اللغوي: قد يكون تعبيراً عن حقيقة موجودة، وقد يكون تعبيراً عن مكذوب لا وجود له.. تقول: دخل المدرس الفصل؛ فهذا تعبير بالحقيقة إلا أن المدرس لم يدخل الفصل؛ فكان الخبر المعبر عنه بحقيقة اللغة كذباً.. وتقول: مررت بسور القرية، وهو يريد أن يقعَ، فهذا تعبير بمجاز اللغة عن قِدَم السور، وتصدعه، وخراب أساسه، وميله إلى السقوط؛ ثم يكون سور القرية قوياً مستقيماً يمانح عشرات السنين، فيكون الخبر المعبر عنه بمجاز الكلام كاذباً؛ إذن دعوى الكذب ممتنعة في أسلوب التعبير، وإنما تحتمل في الخبر، وليست وقفاً على الخبر المعبر عنه بأسلوب المجاز.. بل تحتمل في الخبر سواء عبَّر عنه بالحقيقة، أم بالمجاز، والعيب في المتكلم لا في أسلوب التعبير.. والله سبحانه وتعالى منزَّهٌ أن يكون في شرعه خبر كاذب سواء جاء الخبر بيغة الحقيقة اللغوية أم بصيغة المجاز اللغوي؛ ونفي الكذب في أسلوب التعبير المجازي أشار إليه (الآمدي) لقوله عن أسلوب الخبر المجازي: إنما يكون كذباً لو أثبت فيه المعني على التحقيق.. يريد (الآمدي) أن العربي متكلماً وسامعاً متفقان على أن بعض صور المجاز يرد فيها إطلاق شيء على شيء ادعاءً لا تحقيقاً للتعبير عن حقيقة أنتجتها العلاقة بين ذينك الشيئين، فقولك: رأيت أسداً (وأنت تريد زيداً من الناس) لا يعني أن زيداً هو الأسد في لغة العرب، وإنما يعني أن لغة العرب أجازت التعبير عن زيد بالأسد لتشابههما في الشجاعة، والمراد التعبير عن حقيقة شجاعة زيد، والكاذب يخفي كذبه بينما أصول اللغة تعلن عن الادعاء المشروع لعلاقة بلاغية تحسينية، وتجعل اللغة في حقيقتها ومجازها أمانة في لسان العربي ليعبر عن الحقائق أو الأكاذيب وفقاً لأمانته؛ ولهذا ذهب صاحب (فواتح الرحموت) وغيره إلى أن قولك: رأيت أسداً يحمل السلاح: ليس خبراً عن الأسد الحيوان المفترس؛ فيكون الكلام كذباً، وإنما الخبر في تأصيل اللغة عن رجل شجاع، وهكذا قال (السعد التفتازاني) في (حاشيته على شرح العضدالإيجي)؛ ولهذا حديث يأتي - إن شاء الله تعالى - في السبتية القادمة، والله المستعان.