د.محمد بن عبدالرحمن البشر
لا أعتقد أن شيئاً ما قد يضاهي التطرف في المعتقد أو غيره في إفناء البشرية، سوى الوباء، والذي قد يكون التطرف مساعداً لانتشار الوباء بانصراف الدول والشعوب إلى صرف طاقاتهم الفكرية والعلمية والمالية من البحث في الحد من الأوبئة إلى التناحر والحقد، وقيام الحروب بين الدول، وبين القوميات والشعوب، أو المعتقدات والمذاهب داخل الدولة الواحدة، ولاشك أن هناك أدوات يستخدمها المتطرفون فكرياً للنيل من المستهدفين من أبناء بلدهم، أو عبر حدود الدول الأخرى.
سطر لنا التاريخ الكثير من الحوادث المؤلمة والدامية التي راح ضحيتها الكثير من بني البشر، ولو صرفت الجهود للقضاء على المتطرفين والأشقياء مثل السراق، وقطاع الطرق والقتلة لكانت البشرية أكثر أمناً واستقراراً، ورخاءً. لاشك أن المتطرفين يلهبون حماس الرعاع من بسطاء المجتمع، ليظهروا أن ما يقولون هو الصواب فيدفع أولئك البسطاء بحماسهم الموجه إلى حيث أراد المتطرفين، ورأينا ذلك لدى أفراد أغواهم زعماء متطرفون ليقتلوا أبناء بلدهم، أو يعبرون بإجرامهم الحدود، حدث ذلك في أماكن كثيرة من العالم ومن خلال متطرفين من جنسيات وملل ونحل مختلفة.
والتطرف ليس وليد اليوم، فقد نقل لنا التاريخ تستطيراً أو مشافهة، أحداث جسام كان التطرف لسبب ما ظاهر التأثير على مسيرة الإنسان، وما فعلته محاكم التفتيش في أوروبا من أفعال مشينة لعلماء فلكٍ، وطبٍ، ورياضيات، وعلماء منطق، وفلسفة، وغيرها يبقى شاهداً على ذلك التطرف الناتج من فهم خاطئ للدين المسيحي لدى بعض ذوي السلطان الديني أو السياسي، وما حدث للمورسكيين الذين تنصروا وعاشوا واستطاعوا المواءمة حتى نهاية القرن الخامس عشر، أمر محزن حقاً.
في عام 1569م، قامت محكمة التفتيش بمحاكمة عائلة كوزموس ابن أمير، وهي من أكثر العائلات المورسكية ثراء من مدينة بلنسية، كانت الغاية منها نهب ماله من خلال الغرامات ليتمتع بها أعضاء المحكمة وأعوانهم، وفي عام 1577م، اعتقلت محكمة التفتيش في مدينة سرقطة التاجر المورسكي السيد/ إخوان كمباريو بتهمة مساعد الأتراك، وقد أنكر التهمة، فأخذوا في تعذبيه بطريقة قاسية، لكنه أصر على براءته، غير أنه اعترف بممارسته بعض شعائر الإسلام خفية، وكانت هذه كافية لسلب ماله، وعزله وزوجته في أحد الأديرة، وفي العام التالي حكم على ابنه الأصغر بالقتل غيابياً، حيث كان فاراً إلى الجزائر، ويبدو أن أمراً ما غير إيجابي قد حدث له في الجزائر، أو أنه اشتاق إلى تراب وطنه ووالديه وأهله وأصدقائه، وقد يكون أصيب بحالة اكتئاب دعته إلى طلب العفو والعودة، على أن يكون نصرانياً مخلصاً، خالياً من أيّ ارتباط بالإسلام، وعاد إلى الوطن، وبعد عام من عودته اتهمته المحكمة بأنه ارتد عن النصرانية، وعاد إلى الدين الإسلامي، وفي طريقه إلى مكان الحرق على آلة الخازوق، بعد أن أضرمت النار في الحطب، وأخذ لهيبها يرتفع إلى جوف السماء، قيل إنهم سمعوه وهو يدعو الله باللغة العربية، فما كان من العامة وجمع المتفرجين إلاّ أن أخذوا في رجمه بالحجارة من كل جانب في منظر يشهد على سقوط الإنسان الأخلاقي أمام فكر التطرف، وقد فارق الحياة وبدا متقطع الأوصال قبل أن يصل إلى المحرقة فحرق بها حتى أصبح رماداً، ومن العجيب أن المحكمة قد أصدرت بياناً ذكرت فيه أن حرق هذا المرتد جعلت العامة في حالة من الرضا، بينما جعلت المورسكيين في حالة من الخوف والذعر، لكن مأساة هذه العائلة المورسكية الأندلسية، لم تنته، بما حدث لرب الأسرة وزوجته وابنته، فقد أحرقت ثلاث من زوجات أبنائه متهمين إياهن بالهرطقة، بعد أن يئسوا من اعترافهن بممارسة العبادات الإسلامية، ومات زوج ابنته في سجن محكمة التفتيش، أما خادمهم فقد أرسل للعمل في الأسطول التابع للملك، وبعد أن استفادوا من خدماته، أعدموه، وبعد أن خرجت زوجته من العزل في الدير بعد قضاء المدة المحدودة، ووفاة زوجها فيه.
وفي عام 1609م ، أحرقت الأرملة المسكينة بالنار على الخازوق، بعد أن وجهت لها تهمة المساعدة في ترتيب جنازة لأحد من أقربائها بالطريقة الإسلامية، وأنهم قد صلوا عليها قبل نقلها إلى القبر في غرفة معدة للصلاة.
هناك قصص مؤلمة كثيرة جداً حول ما قامت به محاكم التفتيش نحو المسلمين وغير المسلمين، وكان استهداف العوائل المؤثرة والغنية ذات الأصول الإسلامية ممنهجاً في تلك الفترة بشكل واضح، ويمكننا أن نلخص إلى أن هذه النماذج توضح بجلاء أن التطرف داء عضال ينخر في جسد البشرية، وقد يظهر في أيّ زمان ومكان طبقاً لمعطيات عديدة.