عقل العقل
انتشار وتفشي الواسطة حقيقةً وواقعًا في مجتمعاتنا العربية قد يكون لهيكلية هذه المجتمعات القبلية والجهورية علاقة في بقاء الواسطة رغم التشريعات المجرِّمة لمن يمارسها، ولكن يبدو أن هذه القوانين تُوضع في الأدراج ولا تفعَّل -للأسف- في الكثير من الدول. مَن يراقب ما يحدث في المجتمعات العربية هذه الأيام من توترات وحراك سياسي واجتماعي يلحظ أن المطالب لتلك الجماهير لا تهتم كثيراً بالحقوق السياسية كما كنا نعتقد في السابق، بل تنحصر المطالب لتلك الجموع في الحقوق الاقتصادية التي فقدتها بعض الشعوب العربية جراء انتشار الفساد المالي والإداري في تلك الدول. أنابع مؤخراً لافتات المظاهرات في لبنان مثلاً نجدها تحمل لافتات ضد المؤسسات المالية وخاصة البنوك التجارية بل وصل الحال إلى مهاجمتها وتحطيم واجهاتها، في مجتمعات كهذه تظل الواسطة الركيزة واللبنة الأولى لمنظومة الفساد، ومن هنا تتأتى خطورتها في مجتمعاتنا العربية. من إسقاطات مرض الواسطة هو وصول مجموعة غير مؤهلة مثلاً للمواقع القيادية في منظمة الاقتصاد الوطني لأي دولة، هذا بحد ذاته كفيل بخلق حالة من الإحباط لآلاف من الكوادر الوطنية المؤهلة التي استبعدت من تلك المواقع القيادية رغم أنها تدرجت وعملت لعشرات السنيين واكتسبت الخبرة والمعرفة، وفجأة يطب عليهم بعض الأفراد ويأخذون حقوقهم في الإدارة ليس بسبب التفوق والخبرة والمعرفة ولكن بسبب الواسطة من ذلك المسؤول والذي يقدم قريبه أو ابن قبيلته أو منطقته، وللأسف أن هذا هو الحال عندنا وخاصة في قطاع الشركات غير الحكومية والذي أرى أن الجهات الرقابية يجب أن تلتفت إلى ما يمارس فيه من تجاوزات مالية وإدارية وخاصة إذا كانت أسهمها مطروحة في سوق الأسهم المحلية، نجد أن تشكيل مجالس الإدارة في هذه الشركات يتم على أساس القرابة والمعرفة ومن يخدم مصالح بعض المساهمين الكبار في تلك الشركات، أن محاربة الواسطة يجب ألا تقتصر على الموظف الحكومي رغم أهمية ذلك، ولكن يجب أن تكون محاربتها في القطاع الخاص أيضًا، خاصة أننا نعيش في مرحلة تحول اقتصادي يركز على دور القطاع الخاص ويقلص من دور الحكومة في الاقتصاد الوطني الكلي.
من مراقبة مشهد التوظيف لدينا نجد أن الواسطة ما زال لها مفعول السحر في التوظيف، ورغم أنني من مؤيدي ما تنص عليه القوانين السعودية في التصدي للواسطة واعتبارها عملاً جرميًا يعاقب عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات أو غرامة تصل إلى مائة إلف ريال، إلا أنني أشك في أمكانية تطبيق هذه العقوبات على أرض الواقع، وأتمنى أن أكون مخطئًا ولكنني للأمانة لم أسمع ولم أقرأ يومًا عن تطبيق مثل هذه الجزاءات بحق من مارس الواسطة أو قدَّمها أو سعى إليها، ما زلنا للأسف نطارد بعضنا بعضًا لمحاولة الحصول على حقوق لنا في التوظيف عن طريق الواسطة، لا شك عندي أن الإجراءات المعقدة مثلاً في الحصول على الخدمة أي خدمة قد تكون السبب في تعقيد الأمور وضياع الحقوق، من الجوانب المشرقة والباعثة على الأمل في تجاوز إشكالية «الواسطة» هو التقدم في استخدام التقنية بشكل متقدم جدًا لدينا مما يخفف من التجاوزات غير النظامية، وكلنا يعرف أن التقنية يديرها الإنسان وقد يتلاعب البعض فيها لتنفيع البعض والإضرار بآخرين، وأتذكر قبل شهر أن أحد الطلاب «الهكرز» قد تسلل إلى سجلات الطلبة في جامعته وغيَّر فيها، وهذا فيه ظلم للطلبة الآخرين، وللأسف قرأت في مواقع التواصل الاجتماعي تعاطف البعض مع ذلك «الهكرز» بل إنهم يطالبون بالاستفادة من تفوقه في تقنية المعلوماتية.