د.فوزية أبو خالد
من أعان ظالما ليدحض بباطله حق فقد برأت منه ذمة الله ورسوله.. استدعى إلى ذاكرتي هذا القول الكريم مع الأسف ذلك الحبر الآسن الذي كتبت به تلك المقالات البائسة وتلك المواقف الخفيضة وتلك البكائيات الحضيضة التي نفثت سمومها عبر الكثير من القنوات والنوافذ الورقية ومنصات التواصل الاجتماعي في مقتل مجرم الحروب وقائد الإجرام العسكري والسياسي الجماعي في حق عدد من الشعوب بما فيها شعب بلاده والبلاد المجاوره لها.
ومع أنني لم أجد عيبًا لسقوط ورقة التوت في (مقتل المجرم الذي لا يستحق ذكر اسمه الذاهب إلى مزبلة التاريخ كصاحبه الذاهب للدرك الأسفل من الجحيم بإذن الله) حين جاء من أنظمة باعت شعوبها وقتلت أطفال بلادها وتاجرت بسمعة شهداء قضايا وطنية شريفة، بل تنازلت عن الشرف الوطني مقابل تحالفات سياسية رخيصة، فالعيب حين يأتي ممن تخسف الأرض بهم ولا يستحون لا يعد عيبًا بل يعد تعبيرًا عن واقع الفضيحة الذي وصلته تلك المنظمات والأنظمة، إلا أنني لم استطع إلا أن أصعق ممن يسمون أنفسهم «مثقفين» (وراية الثقافة براء) منهم وهم يظنون كذباب مقرف مزعج تباكيًا على مقتل مجرم الحروب ومهندس القتل ومدرب المجرمين وخدين السفاحين في بلاده وعملائه منهم في بلاد الجوار.
ما الفرق إذن بين تلك الأنظمة والمنظمات التي تحالفت مع الشيطان وتنازلت عن الضمير والصدق والعهد الغليظ الذي يفترض أنه يربط بين الحاكم والمحكوم وخرجت على كل قيم الشرف الوطني والشرف الإنساني النبيلة مقابل البقاء في السلطة وبين المثقف الذي يفترض أنه ضمير الحق وصوت العدل وعاشق الجمال وممثل الفرد في أشف صور التفرّد والزهد النزيه وممثل الجموع في أقصى حالات الالتحام مع منشود الحق في الحرية والكرامة والسلام على الأرض؟!
ما الفرق إذن بين ما يعرف في أبسط مبادئ علوم النقد الاجتماعي بجبن السلطة وبين شجاعة الثقافة، وكذلك ما يعرف بعمى السلطة وبين بصيرة الثقافة إذا كان هناك من «المثقفين» من هو مستعد ليتنازل عن كل كلمة جميلة سبق وكتبها في «أوقات السعة» لينكص على تاريخه وعلى الثقافة معًا في وقت اشتداد الأزمة «. ليسقط في امتحان الحق أمام الباطل سقوطًا مهينًا أبشع من سقوط أعتى سلطة، مما يكشف عن « أزمة قيم» هي بلا شك أقسى من «الأزمات السياسية والعسكرية» على كل من في قلمه ذرة حياء أمام الله وأمام الناس وأمام الضمير العام.
ولا شك في أن موقف البكاء على قاتل قام بتأييد أنظمة مجرمة في حق شعوبها فساعدها وقدم لها سواعد المليشيات المدربة على يديه لتعيث فسادًا في مصائر مدنيين عزل من تلك الشعوب ولتزعزع أمن منطقة كاملة بين أهلها ما بينهم من القواسم التاريخية والتواشج المصيري لا يمكن فهمه إلا أنه حالة موت بواح اختار المتباكين على مقتل القاتل الإقدام عليها. فالموت الضميري مثل الموت السريري تنتهي به الحياة ويدخل صاحبه عالم الأموات ونادرًا ما تسطيع الأجهزة أو «تبريرات الموت الضميري» إحياء الأموات.
وبما أن «الميت ضميريا» ليس له كرامة الميت سريريًا فإن هؤلاء الموتى ضميريا الذين يظنون أنهم محسوبون على «الثقافة» لا يتورعون عن تبرير تباكيهم على مقتل مجرم الحروب بأن الضربة قد جاءت بيد أمريكا التي هي رمز للهيمنة والاحتلال الخ... وكأن كل الوسائل الشريفة التي يمكن أن يعبر بها عن موقف من أمريكا أو من السياسات لرئيسها قد انتفت ولم يبق إلا اللجوء إلى هذا الوسيلة الدنيئة وهي مؤازرة مجرم الحروب بالعويل المخجل على مقتل قاتل. لقد تابعت في حينه قبل أسبوع ونيف عددًا من مداخلات أصحاب الرأي على مقتل القاتل من قبل عدد من «الكارهين « لسياسة ترامب الخارجية في عدد من نوافذا الإعلام الغربي والعربي فلم أجد من تباكى على مقتل القاتل العتيد وإن كان هناك كما (مايكل مور) من حاول أن يغض الطرف عن جرائم ميليشيات مجرم الحرب في حق أهل المنطقة بدعوى أنه لم يرتكب جرمًا مباشرًا في حق أمريكا بحسب قوله إلا أنه يبقى أن من فعل ذلك «نكاية» برئيسهم أو تعبيرًا عن معارضتهم لسياسيته وخوفًا من مزيد من تورط أمريكا العسكري الخارجي، لم يكن ليجرؤ على فعل ذلك خارج سياق الخوف من التداعيات وفي سياق التحذير من الانسياق لحرب جديدة.
وفي هذا السياق لا بد من التذكير بالتغريدة النظيفة التي رد بها د. عبدالسلام الوائل على مايكل مور موضحًا فيها بعقلانية هادئة الموقف النزيه الذي على المثقف التحلي به في الرضا والغضب وفي المواقف البسيطة والمعقدة. ومنها أنه يستحيل استعارة قفزات نظيفة لأيدي غارقة في دم أبرياء. فمع حفظ حق المثقف في اختلاف الرأي إلا أن هناك دائمًا أساسيات إنسانية مبدأية في أصعب المواقف السياسية ليس للثقافة النقدية المستقلة أن تتخلى عنها وإلا لتحولت إلى خطاب دعائي له ثمن.. فوحدها المواقف المبدأية التي ليس لشرفها ثمن.
وذلك هو الموقف المتوقع من كل مثقف حقيقي لم يكلفه أحد بالدفاع عن القضايا الشريفة إلا ضميره والعهد الثقافي الذي لم يقطعه لأحد إلا لنفسه وعلى نفسه.