د. حسن بن فهد الهويمل
يظن بعض العقلاء أنهم يملكون الخيار، وأنهم يبتدرون الرغبات. ذلك بادي الرأي, وما يتبادر إلى الأذهان.
والحق أن الله وحده المدبر لهذا الكون, والهادي لكلِّ الأناسي:- {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}. {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}, أي على ما جُبل عليه, ويختار الصبغة المناسبة لوعيه, ونسقه الثقافي.
الكون يقوم على الثنائية المتكاملة, أو المتناقضة:- {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}. هذه الثنائية مختلفة, والاختلاف إكسير الحياة:- {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}. الإشارة هنا للاختلاف، والاختلاف حميدٌ, وذميم.
حميد إذا أحسنت الأمة إدارته, واستثماره. وذميم إذا تحول إلى تنازع, وتنابز, وصدام:- {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}. الفئة المرحومة من كان اختلافها لمصالحها. اختلاف يصقل, ويغير, ويجدد.
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}. بعض المفسرين ذهب إلى أن هناك (إيجاز حذف), وتقدير الكلام: (كان الناس أمة واحدة على التوحيد, فاختلفوا), فبعث الله الرسل. بل قيل إنها قراءة:- (فاختلفوا). وقيل كان الناس أمة على الكفر, وليس على الإيمان:- {فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ}.
المهم أن (الاختلاف) حتمي أزلي, وفي الحِجَاج جلاء, وتنوير. واجب الخيرين التضلع من المعارف, والبحث عن الحق, وحسن الظن بالمخالف, حتى يبدو منه الإصرار, والتعصب, والإقصاء, والتصنيف. وهنا يكون الاختلاف خلافاً, ويتحول من وظيفته التنويرية إلى تدمير للمكتسبات.
القمة تتسع لأكثر من (مذهب), فضلاً عن (الأفراد), ولاسيما إذا كان هناك مخالف في العقيدة, والقومية, والحضارة, والمنهج.
الإسلام يحث على الحوار مع المخالف: عقيدة, وقومية, وحضارة, وتمكين المحاور من الأجواء الملائمة:- {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ}. وعليك بعد ذلك أن تبلغه مأمنه, رضي بقولك, أم لم يرضَ.
وقدوتنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حواره مع (أبي الوليد عتبة بن ربيعة). لقد أذن لـ(أبي الوليد) بالقول, حين جاءه في المسجد الحرام:-
- قل يا أبا الوليد أسمع.
حتى إذا فرغ (عتبة), والرسول يستمع منه.
قال:- أقد فرغت يا أبا الوليد.
قال:- نعم.
قال الرسول:- فاسمع مني. وقرأ سورة (حم), ثم قال:-
قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت, فأنت, وذاك.
هذا اللطف, وهذا الاحتفاء, وهذا الاستماع, قلب الموازين لصالح الرسول, والرسالة.
إننا بحاجة إلى وعي الإسلام كما نزل:- {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}, لا كما فهمه المتلقي. ومن ثم يجب أن نفرق بين (الدين) المحكم بنصه, و(المتدين) المحكوم بفهمه. المبادئ تقرأ بنصها, ولا يقرأ عنها, ولا تقوَّم من خلال سلوك ذويها.
لقد أضر بالإسلام أقوام حَرَّفوه, وأقوام استعبدتهم الأهواء, والشهوات، وأضلهم علماء سوء مجندون, أو جاهلون.
ولهذا بشَّر الرسول بالمجددين:- (يَحْمِلُ هذا العِلم عُدُولُه, يَنْفُونَ عَنْه تَحرِيفَ الغالين, وانتحالَ المُبْطلين, وتأويلَ الجاهِلين).
إذًا هناك (غلو) نشهده, ونتجرع مرارته, إنه التطرف, والتشدد.
وهناك (مبطلون), أضلوا العامة.
وهناك (جُهَّال) يتأولون لكي يوافق الدين أهواءهم.
إن من يطلق حسن الظن, ويأمن الحبائل في زمنٍ تكالب فيه الغلاة, والجهلة, والمبطلون.. ولُغِّمت الطرق, وفُخِّخت الأدمغة.. جاهلٌ, أو متهاون:- {وَقُلِ اعْمَلُواْ}. و{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}. (كُلٌ مُيسَّرٌ لما خلق له).