أ.د.عثمان بن صالح العامر
طبعًا هذا المصطلح (المتعة) له أبعاده المختلفة، ومعاييره المتباينة، وألوانه ومذاقاته المتنوعة باختلاف وتنوع البشر، وتعدد هوياتهم، وتباين اهتماماتهم، ولذا لا تستغرب من أي سلوك بشري تعده أنت مضيعة للوقت، وهدراً للمال، في الوقت الذي يعتبره مقترفه متعة جميلة يجد فيها أنسه وراحته، ويشبع من خلال تعاطيها حاجة في نفسه، لا يعلم هو فضلاً عن غيره كنهها ولا حتى ماهيتها.
أذكر أن من أغرب الأسئلة التي طرحها عليَّ قبل سنوات ليست بالقريبة، صديق قديم، افترقنا عن بعضنا بعضًا زمناً طويلاً جراء مشاغل الدنيا وبعد المسافات - وكان يعرف ولعي بالقراءة وهو على نقيض ذلك تماماً - قال لي بالحرف الواحد وباللهجة الحائلية الماتعة: (أسألك بالله أنت إلى ها الحين تقرأ، ما خلصت، جما أنت صرت بروفيسور من سنين، خلاص، وش تبي مشغل روحك بساقة ها الكتب، التفت لنفسك، شف عيال... ما عمرهم فتحوا كتاب عندهم ملايين، ما ضرهم، ترك والله جالس تضيع وقتك، أنعمت عيونك، وبعدين وش الفايده !؟).
هذا نمط من الناس يعتقد بأن القراءة لا متعة فيها ولا فائدة من ورائها بل هي ضرر وجريمة، والمقياس الوحيد للسعادة والأنس عنده الرقم المالي في حسابك البنكي، وآخرون كثر لا يرون في مشاهدة المباريات، ومتابعة الأحداث، أو الخروج للبر، أو ركوب الخيل، أو امتلاك الإبل، أو الحرث والغرس والزرع، أو السفر والترحال، أو لعب الألعاب الإلكترونية، أو إبداع اللوحات الفنية، أو حتى العمل الوظيفي، أو الكتابة، أو ... متعة، مع أن لكل من هذه الممارسات محبًا وعاشقًا يجد فيها متعة كاملة نحن لا نشعر بها ولا نصدق ما يقوله عنها وفيها، وهكذا تختلف الميول والرغبات باختلاف الطبائع والسمات فضلاً عن التكوين والاهتمامات، ولذا فليكن لدينا سعة أفق في قبول هذا التنوع الإمتاع - خاصة لدى شبابنا وفتياتنا الصغار - مهما كان في نظرنا غير مستساغ، متى ما كان في دائرة الحلال، ولا يؤثر على قيامهم بواجباتهم الدينية والوطنية، ولا يضر بمستقبلهم العلمي والوظيفي، ولا يأخذهم عن أهلهم وأسرهم، ويتماشى مع طموحاتهم وتطلعاتهم في الحياة، فالدنيا قصيرة وساعة المتعة فيها أقصر منها.
- أذكر أن أحد الأقارب كان يعاني من كثرة خروج ولده المراهق الذي يدرس في المرحلة الثانوية من البيت خاصة حين يحين المساء مع أنه ليس صاحب استراحات، وقليل الأصدقاء ومحدود المعارف، وبالأخير اكتشف الأب بعد جهد جهيد أنه كان يذهب ليلعب بلياردوا في مقهى قريب، ولم يكن في مقدور هذا الشاب إخبار والده بهذا الأمر، لأنه يعرف مسبقاً أنه سيعاقبه على صنيعه هذا الذي يجد هو فيه متعته.
- أحد الزملاء ذكر لي أن صديقاً له على درجة أكاديمية عالية متعته التجول في المطارات والتصوير فيها، حتى أنه زار غالبية مطارات العالم ولديه معلومات كاملة عن أكثرها، ويحتفظ بصور جلها إن لم يكن كلها خاصة الدولية منها، وإذا كان لديه رحلة خارجية يحرص على أن يذهب قبل الرحلة بأربع ساعات على الأقل لكي يستمتع هناك.
- أسأل أحد الأصدقاء قبل أيام على أخيه الذي يصغره، أين هو ما له شوفة؟، رد عليَّ: (حنا والله ما نشوفه، طاح بالبل، صار له بعارين ويجلس بالأسبوع والأسبوعين عندهن). وتبقى المتعة سر من أسرار الشخصية، البعض منها في نظرنا نحن الآباء نشاز وغريب خاصة في عالم اليوم المتسارع والمتشابك المعقد ولكنه في النهاية مبعث سرور وراحة لدى مقترفه، ليكن.. المهم أن يبقى في الدائرة المسموح بها ولا يؤثر على مساره الحياتي، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.