خالد بن عبدالكريم الجاسر
دولة تحالفات.. برؤية اقتصادية لشرق جديد، تميزت بها المملكة.. في الآونة الأخيرة، على كافة الصُعد العسكرية بتشكيل وقيادة التحالف العربي في اليمن، ثم التحالف الإسلامي العسكري، لـ41 دولة، ونجاحها في إدارة مناورة رعد الشمال بمشاركة 20 جيشًا من أقوى جيوش العالم، لتكون هي الأسرع في بناء تحالفات عديدة، كرسالة إلى العالم بأنَّ السعودية اليوم ليست كالأمس، وأنّ قواعد اللعبة بالمنطقة، في طريقها للتغيير، فضلاً كثيراً عن الاستراتيجيات الناجحة من مبادرات وقمم إلى رئاستها G20، ولعل الثقة والتحالفات طويلة المدى، ظاهرة نادرة في العلاقات بين الدول، لم نرها إلا في زمن الحرب الباردة، منذ تضامن الدول الغربية للتصدي للتهديد السوفييتي الشيوعي، وتأسيس حلف الأطلنطي «ناتو»، قابله تضامن حكومات الدول الشيوعية للتصدي للتهديد الغربي الرأسمالي الديمقراطي، بتأسيس حلف وارسو، لكن عروبتنا تختلف، لما نمتلكه من قواسم مشتركة نظمها لنا الدين الإسلامي بالإخاء وحُسن المعاملة، لكنها غير كافية مما يعني أن المصلحة والرؤية المشتركة، لا الثقافة المشتركة، هي الشرط الضروري واللازم لقيام حلف، تَوجت به المملكة سياساتها المتينة ورؤيتها الحالمة بجيرانها ودول العالم التي أيدتها وتؤيدها دائماً في مواجهة استراتيجيات الدول المتوغلة في البحر الأحمر ودول القرن الأفريقي على ضوء خبرات الماضي وحقائق الحاضر ومصالح دول الكيان المستقبلية.
ولأن تنافس العديد من القوى الملاحة الدولية مُنذ فجر التاريخ بصراعاتها وأطماعها خاصة منذ (الإمبراطورية الرومانية، ثم العصور الوسطى)، خاصة في مناطق البحر الأحمر، لكونها بؤرة اقتصادية وأمنية مُتداخلة يصعب الفصل بينهما، في عدم وجود كيانات أومؤسسات إقليمية تنظم العلاقات والتعاون بين البلدان المعنية.
فلقرون عديدة لعب البحر الأحمر دورًا محوريًا في التجارة العالمية بعد شق قناة السويس التي ربطت البحرين المتوسط والأحمر، واختصرت طريق التجارة العالمي كبديل لرأس الرجاء الصالح ممرا لحركتها، خفض أسعار السلع، والنقل، ووفر الوقت والجهد، إذ يوفر نحو 57-59% من المسافة، و50-70% من الوقود، ويتيح للسفن والناقلات زيادة عدد الرحلات، وسرعة الإمداد بالوقود والسلع، إضافةً لقربه من أعلى مخزون نفطي في العالم بمنطقة الخليج العربي الذي يمتلك 70% من احتياطي النفط العالمي، ويمر خلالها سنويًا بضائع وسلع بنحو 2.5 تريليون مليار دولار تمثل نحو 13% من التجارة العالمية، ليُقارب قيمتها 5 تريليونات دولار بحلول عام 2050، وتوقع البنك الدولي وصول الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة 6 تريليونات دولار!.. شكّل كل ذلك عامل جذب للقوى الإقليمية والعالمية بما في ذلك قوى بعيدة جغرافيًا كالولايات المُتحدة والصين.
أرقام تُظهر آفاق التحدي والنمو المُتاح للدول الثماني في البحر الأحمر، وضرورة مواجهة الأطماع الخارجية عبر كيان «أرسقا»، وتحسين البنى التحتية اللوجستية، التي ستُساهم في تفعيل مبادرات تسهل إجراءات التجارة وتسرع بعمليات المناولة في موانئها، خاصة أنها ستلعب دورًا رئيسيًا في مشروع طريق الحرير الجديد، المشروع الصيني الضخم، ومدينة نيوم قلب القارتين الأفرو_ آسيوية؛ لإعادة رسم خارطة التجارة العالمية التي تستخدمه غالبية دول العالم كطريق ملاحي وممر أساسي للتجارة، بامتداده إلى خليج عدن عبر مضيق باب المندب، مما أوجب تأسيس قواعد عسكرية في دول الشاطئ الإفريقي التي سيتضاعف عدد سكانها من نحو 600 مليون نسمة إلى 1.3 مليار نسمة خلال العقود الثلاثة المقبلة. وهو استكمال لما دار في اجتماعات القاهرة أواخر 2017، بين وزراء خارجية سبع دول عربية وإفريقية مُتشاطئة على ساحلي البحر الأحمر الشرقي والغربي وعلى خليج عدن؛ ثم استضافة الرياض، اجتماعه التشاوري الأول في نهاية 2018 لوزراء الخارجية فيها، ليتم الاتفاق على «أهمية إنشاء كيان «أرسقا»، التي بادر بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، لتحقيق المصالح المشتركة وتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، ليصير لها أمانة واجتماعات وقمة، ليُصبح انتصاراً جديداً لقوة المملكة التي ستكون مقرًا للمجلس، استشعارًا للخطر الخارجي المُحدق بإرهاب ميلشيات في عصر حروب بالوكالة، ولاسيما من الحوثيين والإيرانيين، ناهيك عن وجود مصفاة إيرانية لتكرير البترول في ميناء عصب الإريتري وحامية عسكرية تحمي تلك المصفاة (وقد قامت بنصب صواريخ طويلة المدى في إريتريا مما يسبب قلقا شديدا لدول الجوار)، كما أن لتركيا مشاريع عدة في السودان، وأخرى في الصومال ودول أفريقية أخرى، مما يخلق جبهة تهديد أخرى للدول الثمانية، وليكون «أرسقا» سهماً ساماً وضربة تالية بعد مقتل السُليماني.
دائماً تُتوج جهود المملكة باستراتيجيتها الخارجية بالظفر منذ ميلاد الدولة السعودية الجديدة التي أسسها الملك سلمان، ومبايعة الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد صاحب رؤية يتبعها نجاح، فعندما صنفت دراسة أمريكية السعودية كتاسع أقوى دولة في العالم، في قائمة احتلت فيها أمريكا وروسيا والصين وألمانيا وبريطانيا المراكز الخمسة الأولى، استندت نحو تأثير سياسي كبير للمملكة، وقدرات اقتصادية ضخمة، وتفوق عسكري، وسرعتها في تشكيل وتقوية التحالفات الدولية، وما تمتلكه من إمكانات في التعامل مع الأزمات، غيرت القواعد المألوفة، لتؤكد أنها قوّة عظمى قادرة على إعادة رسم الخارطة السياسية في العالم، مقرها الرياض.