د.عبد الرحمن الحبيب
تمدنا الشاشة الإلكترونية بالأخبار لحظة بلحظة وزخم هائل من المعلومات؛ هذا ما يظهر لنا مباشرة، لكن ثمة تأثيرات غير مباشرة وجسيمة على إدراكنا وطرق تفكيرنا وعلاقاتنا الاجتماعية. نحن إزاء انبثاق نظام معرفي جديد، فالتقنية ليست شيئاً خارجياً نستخدمه ونرميه متى شئنا، بل هي حياة فعلية تنمو فينا ومعها ثقافة جديدة وسلوك جديد..
فكما أن التقنية الزراعية غيرت مجتمعات الصيد والقطف وبنت الحضارات القديمة وإمبراطورياتها؛ ثم نتج عن تراكمها لحقب طويلة ظهور التقنية الصناعية بالقرن الثامن عشر وغيرت المجتمعات بظهور الدولة الوطنية الحديثة والبيروقراطية الحكومية والرأسمالية التي بدورها خلال قرنين أنتجت العصر الرقمي وهو بدوره سيعلب لعبته الثقافية الاجتماعية ليفضي لشيء لا نعلمه. التقنية تُخترع لقضاء حاجات يتطلبها الواقع، إلا أنها بنفس الوقت تخلق واقعاً جديداً.. فإذا قلنا إن الحاجة أم الاختراع، فإن الاختراع عندما يسد هذه الحاجة يؤسس لوضع جديد تنشأ منه احتياجات جديدة.. وهكذا في سيرورة وعلاقة جدلية (ديالكتيكية)..
على هذا الأساس، فالإنسان مجازياً - كما يطرح ستيفان فيال - هو سيرورة مصنوعة من التقنية، فلا حاجة لطرح مفهوم «التقنية» منفصلاً عن مفهوم «الثقافة» رغم اعتيادنا ذلك في تصوراتنا؛ فالتقنية ثقافة مادية تحمل معها معتقدات وعادات وتصورات. حسب فيال، فإنه مع الأجهزة الرقمية، تنشأ تصورات جديدة هي في قطيعة مع السابقة لأنها تتيح الوصول إلى كائنات لم نرها من قبل، وتزعزع الفكرة التي كنا نحملها عما هو حقيقي وافتراضي (الشبكات الاجتماعية، الشخصيات الافتراضية، ألعاب الفيديو..).
يرى فيال بكتابه «الوجود والشاشة.. كيف يغير الرقمي الإدراك» أن التقنيات الرقمية ليست مجرد أدوات، بل هي بُنى للإدراك تحدد الطريقة التي يظهر بها العالم لنا، مما يدفعنا إلى إعادة تصور العالم من حولنا. فتأثير ما يظهر من الشاشة يتعدى ما نشاهده إلى توجيه تصوراتنا وإدراكنا للظواهر؛ فكما ذكر باشلار (أكبر فيلسوف ظاهري) أن «العلم يخلق الفلسفة»، فكذلك التكنولوجيا تخلق الفلسفة وتُعيد تشكيل بُنانا الذهنية والإدراكية وتُعيد بناء معنى الواقع.
يقدم فيال تحليلاً فلسفياً للتكنولوجياً عموماً والتكنولوجيات الرقمية بشكل خاص يعتمد على منهج المشاهدات (علم الظواهر) وتاريخ التكنولوجيا (نظرية المعرفة)؛ موضحاً أن التكنولوجيا لم تعد منفصلة عن أنفسنا، إذا افترضنا أنها كانت منفصلة بالسابق؛ فنحن جزء من الآلة التقنية بقدر ما الآلة جزء منا. يجادل فيال بأن الفرق المزعوم بين الحقيقي والافتراضي (الظاهري) غير موجود ولم يكن أصلا موجوداً. نحن نعيش في بيئة مختلطة رقمية وغير رقمية، متصلة وغير متصلة بالإنترنت.
تأتي أطروحة فيال بعد سلسلة من الأطروحات الفلسفية عن التقنية الإلكترونية، بداية منذ أكثر من نصف قرن بما طرحه الفيلسوف الألماني هابرماس الذي اعتبر «التقنية كالأيديولوجيا مقرونة بالعلم، والإنتاج الصناعي، والتكنوقراطية الحكومية». وليس انتهاءً بما قاله برنار داراس (رئيس مركز أبحاث الصور والإدراك، باريس) بأن «الجزء الكبير من الأنشطة الإنسانية قد انتقل إلى العوالم الرقمية، بالعشرين سنة الماضية فقط، وأن تطور الحواسيب الشخصية، والإنترنت والتهاتف النقال، قد غير جذرياً علاقتنا بالعالم».
قبل عشرين سنة ذكر كيفن كيلي أنه لم يعد هناك تمييز واضح بين الواقع والصورة، بين الحقيقي والتمثيلي؛ وأنه خلال20 سنة سيحدث تهجين بين الخيالي والوثائقي.. سنرى مزيداً من عروض واقعية تصبح سيناريوهات، وسيناريوهات تخرج عن السيطرة، ووثائق تستخدم ممثلين، وممثلين مُختَرَعين آلياً، وأخبار ممسرحة، وقصصاً تصبح أخباراً.. وتزاوجاً بين الخيال والواقع.
لم تكتفِ الشاشة بمزج الخيال بالواقع بل صارت صورها أصلاً للواقع. فالصورة حتى لو كانت محرَّفة تبقى في أذهاننا بينما الحدث الواقعي الذي لم تلتقطه الصورة تعتبره أذهاننا غير موجود، حسب طرح المفكر بودريار الذي يؤكد: «نحن نعيش في عالم حيث تزيد المعلومات، ويقل المعنى».
المعلومات صارت رهينة للإعلان، فلكي ينجح الموقع الإلكتروني يحتاج للإعلان، والإعلان يتطلب الجماهيرية.. فتضطر الشبكات الإخبارية لنشر ما يرضي الزبائن، مما جعلها بالسنوات الأخيرة تتوجه إلى السطحية حسب كثير من مديري تلك الشبكات وفقاً لما ينقله أوليتا عنهم بكتابه «Googled». إذا كانت المعلومات هي المادة الخام للمعرفة، فإن خلط المعلومات بالرغبات والنزوات الشعبية يجعلها مضادة للمعرفة (لي سيجل في كتابه «ضد المكينة»).
هذا ما دعا الفيلسوف الفرنسي جاك إلول إلى اتهام التقنية الرقمية بـ»إنهاك المعنى» عبر انفجار المعلومات واستهلاكها لأنها تمحو مبدأ الواقع ذاته وتُظهر اللاواقعي واقعياً. وصل إلول لمبالغة بكتابه «النسق التقني» بإدانة أيديولوجيا التقنية باعتبارها المسؤولة عن بلاهة الإنسان، والاغتراب الرأسمالي، وخيبة الأمل من العالم.
يبدو هذا الموقف «المتعالي» السلبي تجاه التقنية المنتشر بين الفلاسفة والمفكرين كأنه «رهاب التكنولوجيا» حسب تعبير فيال، وكأن التقنية أدوات منفصلة عنا وعن الواقع الموضوعي، وغير مرتبطة بالثقافة. على النقيض، يرى فيال أن بيع منتوجات تقنية لا تقل قيمة ثقافية وإبداعية عن بيع لوحات فنية أو تسجيل براءات اختراع. ومن هنا تأتي مطالبة المفكر بيير ليفي: «لقد حان الوقت لتأخذ جماعة الباحثين بالعلوم الإنسانية بالحسبان، مواجهة الشروط التقنية الاجتماعية للتحول الجاري، والمشكلات الفادحة التي تفرضها علينا، والفرص المذهلة التي تتيحها لنا».